تأملات في السيرة النبوية 8 :نحو خدمة علم السنن الاجتماعية (2)




قال الله تعالى: (( قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ 140)) سورة آل عمران، حزب 7 الآيات 137- 140

تتحدث هذه الآيات عن شأن عظيم من شؤون الاجتماع البشري وعلاقة أهل الإيمان به، وفيها تبيين لقواعد جارية في حياة البشر، وسنن ماضية في تطور الأفراد والمنظمات والمجتمعات والدول والحضارات، لا تتغير ولا تتبدل، مثلها مثل قواعد الفيزياء والرياضيات والبيولوجية والفلك وغيرها التي تتشكل على أساسها الحياة. 
و بفضل الله وفقت في انجاز بحث حول هذه الآيات أعرضه ضمن حلقات متتابعة مواصلة لسلسلة التأملات في القرآن الكريم التي كنا قد بدأناها قبل أشهر 

||>> نحو خدمة علم السنن الاجتماعية - الحلقة الثانية - 

ـ >> تعريف السنن: 

يبين الله في مستهل الآية الأولى حقيقة عظيمة ما كان لرسول الله أن يعرفها لو لم تكن وحيًا أوحيت له عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، إذ يقرر الله بأن الأرض خُلقت منذ القدم على سنن ماضية لم تتغير ولم تتبدل هي التي حكمت الأزمنة الغابرة والأجيال الماضية وهي التي تحكم الكون ومن فيه إلى يوم الدين. والسنن جمع سنّة، والسنة هي الطريقة المعبدة والسيرة المتبعة أو المثال المتبع، قيل إنها من قولهم سنّ الماء إذا والى صبه، فشبّه العرب الطريقة المستقيمة بالماء المصبوب، فإنه لتوالي أجزائه على نهج واحد يكون كالشيء الواحد كما جاء في تفسير المنار، وهي السيرة من العمل أو الخلق الذي يلازم صدور العمل على مثالها كما جاء في تفسير التحرير والتنوير. وسنة الإنسان هي الشيء الذي يعمله ويواليه، وسنَّ الشيء صوّره، والمسنون هو المصور كما جاء في التفسير الكبير للأندلسي. وقيل السنة هي الشرائع في تفسير البغوي، وقيل هي الأمة في تفسير القرطبي. وهي كلها معان متقاربة في المجمل تدل على أن السنن هي القواعد والقوانين التي انضبطت وانتظمت عبر الأزمنة، وسارت عليها مصائر الأمم وبُنيت عليها أحوال وأحداث الكون كله. 

والسنة في الاصطلاح الشرعي هي: ((ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير مما يصلح أن يكون دليلاً لحكم شرعي)). وهو تعريف يدخل ضمن المعنى العام للسنة النبوية، وخصوصيته أنه عملٌ سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصار حكما شرعيا ويسمى سنة رسول الله. أما السنة التي نقصدها في هذا الموضوع فهي سنة الله في الخلق والتي تعني حكم الله في خليقته من خلال مجموعة قوانين سنها لهم وأخضعهم لها لا يحيدون عنها على اختلاف أجناسهم وأنواعهم وفقا، لقول الله تعالى في سورة آل عمران الآية 83: ((أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ)). 

وقد وردت عبارة سنة وسنن ثماني عشرة مرة في القرآن الكريم، في إحدى عشرة آية، منها الآية التي نحن بصددها ومنها قوله تعالى في سورة النساء آية 26: ((يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم))، وقوله تعالى في سورة الأنفال الآية 38 ((قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين))، وقوله تعالى في سورة الحجر الآية 12 ((كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ، لا يؤمنون به وقد خلت سنة الأولين))، وقوله تعالى في سورة الإسراء الآية 77: ((سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا))، وقوله تعالى في سورة الكهف الآية 55: ((وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلا))، وقوله تعالى في سورة الأحزاب الآية 38: ((ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له، سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدرا مقدورا))، وقوله تعالى في سورة الأحزاب الآيات 60-62: ((لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا، مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا، سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا))، وقوله تعالى في سورة فاطر الآية 4: ((فهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا))، وقوله تعالى في سورة غافر الآية 85: ((فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون))، وقوله تعالى في سورة الفتح الآية 23 ((سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا)).

وتبين هذه الآيات بأن المقصود بالسنن المذكورة هو الشأن الاجتماعي الذي يتعلق بحياة الناس، وكأن الله سبحانه يلفت نظرنا بأن أحوال البشر كأحوال الكون تخضع كلها لقوانين ثابتة. يسمي الله هذه القوانين في الشأن الاجتماعي السنن، ويختار لها عبارة الآيات حين يتعلق الأمر بالقوانين الكونية، إما بشكل مجمل كما في سورة فصلت الآية 53: ((سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه علي كل شيء شهيد))، أو بشكل مفصل في العديد من الآيات منها قوله تعالى في سورة يس من الآية 37 إلى الآية 40: ((وَآيَةٌ لَّهُمُ الْلَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ. وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَـا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالعُرجُونِ الْقَدِيمِ. لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تدْرِكَ القَمَرَ وَلاَ الْلَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)).

وقد أحصى المهتمون بالموضوع قرابة ألف آية في القرآن الكريم فيها إشارات صريحة إلى الآيات الكونية علاوة على الآيات الأخرى القريبة من الصراحة. وفي هذا الترابط بين السنن الكونية والسنن الاجتماعية إعجاز قرآني عظيم يدل على وحدة الكون وانتظام قوانينه بين الحياة البشرية وحياة الكائنات الأخرى من حوله، سواء البادية منها كطلوع الشمس وغروبها وتعاقب الليل والنهار، أم الخفية منها الغابرة في تاريخ البشر وتركيباتهم النفسية، والغائرة في مركبات الذرة والمتصلة بالأفلاك البعيدة وغير ذلك مما دعا الله إلى النظر إليه والتدبر فيه والاستفادة منه لتكون الحياة البشرية متوافقة مع هذه القوانين الكونية والسنن الاجتماعية فيحصل الانسجام والاطمئنان والسعادة والهناء. وكما أمر الله بالنظر والبحث في أسرار الكون وما فيه كقوله تعالى في سورة يونس الآية 101: ((قل انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ))، فقد أمر كذلك بالتدبر في أسرار تصرفات البشر كما في الآية التي بين أيدينا: ((قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا 

فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)).




0 commentaires:

إرسال تعليق

Loading

تابعنا

Twitter Facebook Favorites