تأملات في السيرة النبوية 6 : العناية الإلهية




حينما يتابع المرء ظروف طفولة المصطفى صلى الله عليه وسلم يشعر بكثير من التأثر والخشوع. يتأثر لصعوبة الحياة التي عاشها. ويقف خاشعا أمام العناية التي أحاطه الله بها. حينما وصل عليه الصلاة والسلام إلى سن الثامنة كان قد جرب كل أنواع البؤس والحرمان التي يعيشها الأطفال المحرومون. عاش يتيم الأب والأم معا، لم ير أباه قط، وماتت أمه ولم يرتو من حنوها وعطفها، ثم مات جده فحُرم من رعاية حانية بدأت ولم تدم.

ذاق الفقر والغربة والحزن والوحدة والخوف والحيرة ضمن بيئة ضالة لا يطمئن لها ويضيق صدره منها. غير أن الله الذي ابتلاه بهذا كله لم يتخل عنه أبدا إذ رعاه معنويا وماديا بأناس سخرهم له، وظروف مناسبة هيّأها لأجله. حينما كفله جده عبد المطلب أشعَر الناس جميعا بأهمية حفيده وضرورة إجلاله والاعتناء به، وحينما عهد به لابنه أبي طالب وهو على فراش الموت أوصاه به خيرا فحفظ أبو طالب الوصية وكان نعم السند لابن أخيه إلى أن توفاه الله بعد البعثة كافرا لم يؤمن به! حفظ الله نبيه ورباه على عينه ليُعدِّه للرسالة الخاتمة الخالدة، وليجعله أفضل خلقٍ وُجد وأفضل نبي أُرسل.

لقد كتب له ربه أن يعيش حياة أضعف الناس حتى يربيه على الرحمة والإحساس والتواضع لكي يكون الإنسان هو محور رسالته، فلا يغفل عن ضامر وضعيف أو فقير ومسكين بل ويصنع منهم القادة والعلماء وصناع الحضارة. وجعله يذوق الحرمان المادي والمعنوي لكي يكون حجة على من يدعو بدعوته فلا يشترط على الله شيئا وهو يكافح في سبيلها. وجعل يتمه ومنعه من أولياء يضبطون فكره وسلوكه سبيلا لتحرير شخصيته من أدران الجاهلية وجاه الآباء والأجداد، حتى يؤمن الجميع بأن محمدا بن عبد الله هو لله وحده لا شريك له ولا أثر لعشيرته في المجد الذي تجلبه دعوته.

لم تمِل نفسه أبدا لخمر أو مجون أو عبادة وثن أو صنم، وحتى حينما تسوقه لا مبالاة الطفولة وعبثها البريء لاقتراف شيء من الابتذال أو حضور ليالي السمر ومجامع الغناء يُحال بينه وبينها فلا يصيبه من ذلك شيء، إذ الطفولة هي مرحلة الحسم في التربية وبناية الشخصية وما بعدها إلا ترقيع. قال ابن إسحاق: “وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فيما ذكر لي يحدث عما كان الله يحفظه في صغره وأمر جاهليته أنه قال: “لَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي غِلْمَانٍ مِنْ قُرَيْشٍ، نَنْقُلُ حِجَارَةً لِبَعْضِ مَا يَلْعَبُ بِهِ الصِّبْيَانُ، كُلُّنَا قَدْ تَعَرَّى وَأَخَذَ إِزَارَهُ وَجَعَلَهُ عَلَى رَقَبَتِهِ؛ يَحْمِلُ عَلَيْهِ الْحِجَارَةَ، فَإِنِّي لأُقْبِلُ مَعَهُمْ وَأُدْبِرُ إِذْ لَكَمَنِي لاكِمٌ لَكْمَةً شَدِيدَةً، ثُمَّ قَالَ: شِدَّ عَلَيْكَ إِزَارَكَ. قَالَ: فَأَخَذْتُهُ فَشَدَدْتُهُ عَلَيَّ، ثُمَّ جَعَلْتُ أَنْقُلُ الْحِجَارَةَ عَلَى رَقَبَتِي وَإِزَارِي عَلَيَّ مِنْ بَيْنِ أَصْحَابِي”. وروى علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “مَا هَمَمْتُ بِشَيْءٍ ممَّا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَهِمُّونَ بِهِ مِنَ الْغِنَاءِ إِلاَّ لَيْلَتَيْنِ، كِلْتَاهُمَا عَصَمَنِي اللهُ مِنْهُمَا؛ لَيْلَةٌ لِبَعْضِ فِتْيَانِ مَكَّةَ وَنَحْنُ فِي رِعَايَةِ غَنَمِ أَهْلِنَا، فَقُلْتُ لِصَاحِبِي: أَبْصِرْ لِي غَنَمِي؛ حَتَّى أَدْخُلَ مَكَّةَ فَأَسْمُرَ بِهَا كَمَا يَسْمُرُ الْفِتْيَانُ. فَقَالَ: بَلَى. فَدَخَلْتُ حَتَّى إِذَا جِئْتُ أَوَّلَ دَارٍ مِنْ دُورِ مَكَّةَ سَمِعْتُ عَزْفًا وَغَرَابِيلَ وَمَزَامِيرَ، قُلْتُ: مَا هَذَا؟ قِيلَ: تَزْوِيجُ فُلانٍ فُلانَةَ. فَجَلَسْتُ أَنْظُرُ، وَضَرَبَ اللهُ عَلَى أُذُنِي، فَوَاللهِ مَا أَيْقَظَنِي إِلاَّ مَسُّ الشَّمْسِ، فَرَجَعْتُ إِلَى صَاحِبِي، فَقَالَ: مَا فَعَلْتَ؟ فَقُلْتُ: مَا فَعَلْتُ شَيْئًا. ثُمَّ أَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي رَأَيْتُ. ثُمَّ قُلْتُ لَهُ لَيْلَةً أُخْرَى: أَبْصِرْ لِي غَنَمِي؛ حَتَّى أَسْمُرَ بِمَكَّةَ. فَفَعَلَ، فَدَخَلْتُ، فَلَمَّا جِئْتُ مَكَّةَ سَمِعْتُ مِثْلَ الَّذِي سَمِعْتُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَجَلَسْتُ أَنْظُرُ، وَضَرَبَ اللهُ عَلَى أُذُنِي، فَوَ اللهِ مَا أَيْقَظَنِي إِلاَّ مَسُّ الشَّمْسِ، فَرَجَعْتُ إِلَى صَاحِبِي، فَقَالَ: مَا فَعَلْتَ؟ فَقُلْتُ: لا شَيْءَ. ثُمَّ أَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي رَأَيْتُ، فَوَ اللهِ مَا هَمَمْتُ وَلا عُدْتُ بَعْدَهُمَا لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى أَكْرَمَنِي اللهُ بِنُبُوَّتِهِ)).

لقد كانت هذه المحطات ذات أهمية قصوى في بناء شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم. لقد جعلته يرى عناية الله له تتجسد أمام عينيه، فلم يصبح في قلبه طمع ليس في الله، أو خوف ليس منه. بل أصبحت ذكرى الأيام الصعبة وما رافقها من لطف إلهي ورعاية ربانية هي زاده حينما تشتد عليه الخطوب وتلسعه الكربات. يُذكِّره الله بها للسلوى والتثبيت والتأديب فيقول له في سورة الشرح: (( أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ * فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ))، ويقول له في سورة الضحى: ((..أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى * فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)). يذكره كيف شرح صدره، سواء بالمعنى الحسي الذي يفيد التشريح الذي أجراه له في حادثة شق الصدر، أم بالمعنى المعنوي إذ جعله ينشرح وتتسع رحابه ويمتلئ حكمة وعلما. ويذكره بمختلف المحن التي مرت عليه، وكيف جعل اليسر يسارع إليه فيمزق العسر الذي يدهمه. وهي رحمة عامة من الله لعباده رَسَمها رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعدة ماضية في حديثه الشريف: (( لن يغلب عسرٌ يسرين)) حتى يركن الناس لله ويحسنوا الظن به، مهما أصابهم من بلاء. وهي للذين ساروا على درب المصطفى وجاهدوا بجهاده، حتى يعلموا بأن الابتلاء الذي يصيب خيار الناس هو عناية إلهية لحكم يعلمها ثم يعقبها التيسير، يرتفع بها الصابرون في مقامات العبودية ثم تنجلي وتزول، وفي الآخرة نعيم مقيم.

د. عبد الرزاق مقري يشارك في الندوة الدولية حول الحكومة والثقافة الإدارية بتركيا



شارك الدكتور عبد الرزاق مقري في الندوة الدولية حول الحاكمية ومشاكل إعادة الهيكلة المشتركة في دول حوض البحار الثلاثة (البحر الأبيض المتوسط والبحر الأسود وبحر قزوين) في ضوء المشترك التاريخي والحضاري أيام 13 – 16 أكتوبر 2011 بجامعة آيدن بأسطنبول تحت رعاية رسمية تركية وتطرقت الندوة إلى موضوع الحاكميةوالمشاكل المشتركة في ضوء التحولات الكبيرة التي تتطور في بلاد البحار الثلاثة منذ نهاية القرن العشرين إلى راهن الثورات العربية الحالية والأزمات المالية العالمية والتي ستؤثر لا محال على المنطقة كلها مما يفرض الدراسة الجادة والتشاور المستمر بين مثقفي وباحثي ومسؤولي هذه البلدان لما يجمعهم من تواصل جغرافي وتقاسم لنفس الإرث و العمق التاريخي ، ولما يملكونه من مؤهلات حيوية تؤهلهم للتحرك المشترك لضمان مسقبلهم الواحد.

تم في بداية الندوة طرح التحولات الجديدة في بلاد الأحواض الثلاثة وردود الأفعال على الظواهر المستحدثة والمشاكل التي نتجت عنها من خلال جلسات الحوار بين العلماء و نشطاء المجتمع المدني و رجال الدولة القادمين من بلدان هذه الجغرافيا لفهم كيف تتناول وتنظر هذه الدول إلى تلك التحولات.ثم تم تنظيم جلسات حوارية أخرى بين المشاركين من دول الجوار لهذه المنطقة والمشاركين القادمين من مناطق أخرى وتم تبادل خبرات وتجارب بعضهم البعض ولتأمين استمرارية هذا الحوار العلمي والمدني تم الإعلان عن تشكيل منتدى لدول البحار الثلاثة يضم العلماء والخبراء ونشطاء المجتمع المدني وغيرهم لتحقيق الشراكة الفعلية بين شعوب المنطقة والمساهمة المباشرة في صياغة مستقبلهم بأنفسهم .وقد نشط ندوات المنتدى عدد كبير من المحاضرين والمناقشين من مختلف أنحاء العالم عبر أكثر من 45 ندوة بشكل متوازي بمختلف لغات العالم من بينهم عدد من المحاضرين العرب من المغرب والجزائر وتونس ومصر وموريطانيا والكويت والأردن والسعودية وسوريا والعراق ولبنان ومثل الجزائر الدكتور عبد الرزاق مقري بترأسه لندوة حول الثورة المصرية شارك فيها نبيل عبد الفتاح سعد مدير مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية وجنكيز غوناي من أسطراليا وجهان سمنغولو من تركيا وقد تميزت هذه الندوة بالدفاع العلمي رفيع المستوى الذي قام به المحاضر من اسطراليا حيث رافع عن وسطية وجدية الحركة الإسلامية في مصر خصوصا حركة الإخوان المسلمين التي تحدث عن نشأتها ودورها في حاضر ومستقبل مصر. كما شارك الدكتور عبد الرزاق مقري بمحاضرة في ندوة أخرى ترأسها وشارك فيها باحثون أتراك وكانت المحاضرة التي قدمها الدكتور مقري تحت عنوان الواقع العربي الجديد والحركات الإسلامية تطرق فيها إلى طبائع الأنظمة العربية في العقود الماضية وتطور نضال الحركات الإسلامية وحالة الانحباس التي وصلت إليها الأمة العربية من خلال أزمة المعادلة الثلاثية بين الحركات الإسلامية والأنظمة العربية والقوى الغربية وكيف استطاعت الثورات العربية أن تفك هذه الحلقة الجهنمية ثم تطرق إلى علاقة الحركات الإسلامية بالثورات وعن التحديات التي تنتظرها والملفات والمحاور التي يجب أن تشتغل عليها في الوضع الجديد علما بأن البحوث والمحاضرات التي قدمها المحاضرون استلمتها إدارة المنتدى شهرا قبل انعقاد الندوات وتم ترجمتها من مختلف لغات العالم مما يظهر جدية المجتمع والسلطات التركية في التعامل مع التحولات وحرصهم على الاستفادة من آراء العلماء والمفكرين وأصحاب الخبرة والتجربة من مختلف أنحاء العالم مما يؤهلهم حقا للشهود الحضاري في العالم الذي يشهد تغيرات جذرية على كل الأصعدة.

Loading

تابعنا

Twitter Facebook Favorites