قال الله تعالى: (( قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ 140)) سورة آل عمران، حزب 7 الآيات 137- 140
تتحدث هذه الآيات عن شأن عظيم من شؤون الاجتماع البشري وعلاقة أهل الإيمان به، وفيها تبيين لقواعد جارية في حياة البشر، وسنن ماضية في تطور الأفراد والمنظمات والمجتمعات والدول والحضارات، لا تتغير ولا تتبدل، مثلها مثل قواعد الفيزياء والرياضيات والبيولوجية والفلك وغيرها التي تتشكل على أساسها الحياة.
و بفضل الله وفقت في انجاز بحث حول هذه الآيات أعرضه ضمن حلقات متتابعة مواصلة لسلسلة التأملات في القرآن الكريم التي كنا قد بدأناها قبل أشهر
||>> نحو خدمة علم السنن الاجتماعية - الحلقة الخامسة -
ـ >> أهمية دراسة علم السنن الاجتماعية -تكملة- :
إننا حينما ننظر إلى واقع المجتمعات الغربية خصوصا في بداية تأسيس النهضة الأوربية نجد بأن أعلى درجات سلم القيم العلمية يتربع عليها رواد العلوم الاجتماعية. والعلوم الاجتماعية هي المناهج العلمية التي تدرس أصول نشأة المجتمعات البشرية والمؤسسات ومختلف العلاقات والروابط الاجتماعية وكذا المبادئ المؤسسة للحياة الاجتماعية والتفاعلات المعنوية والنفعية بين الناس والنظم الحاكمة لهذه العلاقات والتفاعلات. ومن هذه العلوم علم الاجتماع ذاته وعلم الاقتصاد والقانون والسياسة وعلم النفس وعلم الإنسان (الأنثربولوجيا)، وإدارة الأعمال، ويمكن أن يضاف إلى هذه المواد ما اصطلح عليه بالعلوم الإنسانية كالتاريخ والفلسفة والآداب والفنون وغيرها. فعلماء هذه الاختصاصات هم قادة المجتمع في الغرب وواضعو أسسه، ولا يدخل معاهد وجامعات هذه الاختصاصات إلا المتفوقون من الطلبة. ولعلمهم بأهمية هذا الاتجاه وتأثيره في بناء الثقافات والاتجاهات الفكرية المنشئة للنهضة زهَّد الاستعمار الغربي في المجتمعات العربية والإسلامية التي احتلها الأذكياء والمتفوقون في دراسة العلوم الاجتماعية، فكانوا في ثلاثينيات القرن الماضي في مصر مثلا، يمنعون ويخذِّلون المتفوقين من الطلبة المصريين عن التسجيل في كليات العلوم الاجتماعية، ويوجهونهم لمختلف العلوم الطبية وخاصة التقنية حتى يصرفوهم عن خدمة مجتمعاتهم في المجالات التي ينهضوا بها، ولكي تضيع قدراتهم العقلية وييأسوا من جدواها في المجتمعات العربية التي لا تملك البيئة العلمية التقنية المناسبة، ولكي تتم الاستفادة منهم في المختبرات والمصانع الغربية حينما يضطرون للهجرة تحت ضغط المعيشة أو الديكتاتورية أو البحث عن التطور العلمي في البيئات الغربية المناسبة.
لقد نبه الله تعالى إلى هذا الصنف من العلوم قبل قرابة خمسة عشر قرنا وشدد على الاهتمام به بصيغ الأمر تارة كما في قوله تعالى ((فانظروا)) في هذه الآية وغيرها أو بصيغة التشنيع لمن انصرف عن هذا الأمر كما في قوله تعالى في سورة الحج الآية 46: ((أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)). فأخبر سبحانه في آيات عديدة بأنه أودع في الأرض وفي تاريخ السابقين كنوزا ثمينة هي لمن اكتشفها وتعلمها ورغب في الاستفادة منها. وبين أن إدراكها يكون بالتحرك والسير في رحاب الكوكب الأرضي واقتفاء آثار ومآثر وميراث من سبقهم. وفي هذا إشارة إلى أن للإسلام طبيعة متحركة لا تقبل الجمود والتوقف في مكان واحد وزمان واحد، وأنه يستحيل تحقيق الاستفادة من الأرض وتجارب السابقين بالقعود وعدم استعمال الحواس التي منحها الله للإنسان وعلى رأسها العقل الذي به يكون النظر. فالله تعالى حينما يقول سيروا في الأرض يُستفاد من هذا السيرُ الحسي والمعنوي، كما نُقل عن كثير من المفسرين، وفي كليهما يُحتاج للعقل للتأمل والتدبر واستخراج القواعد التي يُستفاد منها. فالنظر يكون من خلال السفر، الذي يعلي الله من شأنه في هذه الآيات، إذ من خلاله يتعرف الإنسان على عادات الناس وأنماط حياتهم فإذا استعمل عقله أمكنه معرفة جوانب القوة في خلالهم ومنظوماتهم التي بها يتفضّلون عن غيرهم وجوانب الضعف في طباعهم وطرائقهم التي بها يقصُرون ويصغرون أمام خصومهم. والنظر يكون كذلك بالسير قصد الاستخبار والتعلم ممن يملك العلم والخبر والمناهج من الرجال والمعاهد والكليات والجامعات المتخصصة في علوم السنن، ولا يقدر على هذا إلا من استعمل عقله ونظر به وصبر على العلم والتعلم. والنظر يكون كذلك بالسفر في الزمن الماضي ومعرفة وقائع التاريخ واستخراج العبر من أحداثه ووضع القواعد العلمية التي يعيش بها الإنسان حاضره ويتأهب بواسطتها لمستقبله برؤى علمية حكيمة حصينة، ولا يمكن فعل ذلك إلا باستعمال العقل كذلك والنظر به في شؤون الغابرين.
إنه من العجب حقا أن يكون كل هذا في متناول المسلمين، باعتبارهم أصحاب هذا الكتاب العظيم الذي فصَّل لهم كل هذا التفصيل وأكَّد لهم كل هذا التأكيد، ثم يتأخرون في بناء منظومة علمية قوية يصلحون بها شأنهم ويعيشون بها الحياة الكريمة التي يريدها لهم ربهم. لقد تنبه كثير من العلماء والمفكرين المتأخرين إلى هذا الأمر فنادوا بضرورة بناء منظومة شاملة وصلبة في علوم السنن وما يتعلق بها ويخدمها من مختلف العلوم الاجتماعية التي تحدثنا عنها سابقا، ويعتبرون ذلك فرضا من فروض الكفاية، إذا لم يوجد من ينهض به تؤثم الأمة كلها، ومن هؤلاء الشيخ محمد عبده رحمه الله الذي كان من أوائل من دعا إلى دراسة علم السنن وتدوينه وتأصيل علم الاجتماع على قواعد إسلامية قرآنية متينة فيقول وفق ما نقله عنه رشيد رضا في المنار: "إرشاد الله إيانا إلى أن له في خلقه سنناً يوجب علينا أن نجعل هذه السنن علماً من العلوم المدونة لنستديم ما فيها من الهداية والموعظة على أجمل وجه فيجب على الأمة في مجموعها أن يكون لهم قوم يبينون لهم سنن الله في خلقه كما فعلوا في غير هذا العلم من العلوم والفنون التي أرشد عليها بالقرآن بالإجمال وقد بينها العلماء بالتفصيل عملاً بإرشاده كالتوحيد والأصول والفقه، والعلم بسنن الله –تعالى- من أهم العلوم وأنفعها والقرآن يحيل عليه في مواضع كثيرة وقد دلنا على مأخذه من أحوال الأمم إذ أمرنا أن نسير في الأرض لاجتلائها ومعرفة حقيقتها". وسار على نهجه تلميذه رشيد رضا الذي يعتبر تفسيره المنار أهم تفسير وقف عند آيات السنن وأعطاها أهمية كبرى ويعتبر رشيد رضا رحمه الله أن المقالات التي كان يكتبها محمد عبده في مجلة العروة الوثقى هي التي غيرت حياته وحولته من مؤمن صوفي مشغول بنجاة نفسه إلى حركة هادرة لا تتوقف من أجل نجاة الأمة وإحيائها.
ومن هؤلاء كذلك الشيخ محمد الغزالي رحمه الله الذي بذل جهدا كبيرا من خلال كتاباته ودروسه للتنبيه إلى ضرورة الاهتمام بعلم السنن وإعطائه الأولوية على غيره من العلوم فقال في إحدى خواطره التلفزيونية حول القرآن الكريم التي أذيعت على تلفزيون الجزائر: "إن لله تبارك وتعالى سن سننا ثابتة وقوانين خالدة في سير المجتمعات البشرية تشبه السنن والقوانين التي تدور بها الأفلاك، وتتحرك بها المادة، وتضبط بها قوانينها في كل جامد وسائل، تلك هي القوانين التي تجعل مجتمعا يزدهر وآخر يضطرب، وحضارة تعلو وأخرى تكبو، هي القوانين التي تجعل أمة تنتصر وأخرى تنهزم، ولا بد أن يعرف الناس هذه القوانين وأن يتحاكموا إليها، أما التجاهل التام لها فلا يفيد، ولا بد أن تثأر تلك القوانين لنفسها بأن ينزل الله الناس على حكمها... فدراستها أجدى لأمتنا من دراسات أنواع النجاسة والطهارة، وأنواع الثمن والإجارة، وغير ذلك من عقود وعهود، فإن سنن الله الكونية وقوانينه الإلهية التي أثبتها القرآن الكريم أهم، لأنها أدل على معرفة الله وعلى فقه أسمائه الحسنى وصفاته العلى وأفعاله بين عباده". وذهب الدكتور علي الصلابي إلى نفس الاتجاه فقال في إحدى مساهماته المثيرة في هذا المجال: "يأتي هذا العلم من حيث الأهمية بعد العلم بالله ومعرفة الله وصفاته وأفعاله، فهو قبل أصول الفقه وقبل فقه الفروع وقبل علوم الآلة من حيث الأهمية، فهو من أقصر الطرق لمعرفة الله سبحانه وتعالى من خلال استيعاب سننه في خلقه وفي الكون ولأنه من أقوى الدلائل على وجود الخالق العظيم العليم الخبير القوي العزيز الذي أتقن كل شيء سبحانه وتعالى، ولأن هذا العلم من الوسائل العظيمة في حفظ دماء المسلمين وأعراضهم ودولتهم وحضارتهم ودينهم. وبالتالي هذا العلم يجب أن يسهل ويبسط ليكون في متناول القادة السياسيين والفقهاء والاقتصاديين وعامة المسلمين. وهو يدخل في المجال الاقتصادي والسياسي والإعلامي وفي المجال الشرعي في كل نواحي الحياة".
0 commentaires:
إرسال تعليق