قال الله تعالى: (( قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ 140)) سورة آل عمران، حزب 7 الآيات 137- 140
تتحدث هذه الآيات عن شأن عظيم من شؤون الاجتماع البشري وعلاقة أهل الإيمان به، وفيها تبيين لقواعد جارية في حياة البشر، وسنن ماضية في تطور الأفراد والمنظمات والمجتمعات والدول والحضارات، لا تتغير ولا تتبدل، مثلها مثل قواعد الفيزياء والرياضيات والبيولوجية والفلك وغيرها التي تتشكل على أساسها الحياة.
و بفضل الله وفقت في انجاز بحث حول هذه الآيات أعرضه ضمن حلقات متتابعة مواصلة لسلسلة التأملات في القرآن الكريم التي كنا قد بدأناها قبل أشهر
||>> نحو خدمة علم السنن الاجتماعية - الحلقة الثالثة -
ـ >> خصائص السنن:
إن السنن الكونية أوجدها الله بإرادته وبالشكل الذي قدره ووفق الآثار التي رتبها عليها في الكون والحياة، فهي سنن ربانية منسوبة إليه سبحانه صنعها على خصائص جبلها عليها منها ما يلي:
ـ // الشمولية والارتباط والانتظام:
إذ أن كل إنسان يستعمل حواسه فيتأمل في هذا الكون ومخلوقاته بمختلف أنواعها سيدرك بأن الترتيب والانتظام والانسجام هو القاعدة العامة التي تحكم كل أجزاء الكون وأنه لا يوجد شيء في الوجود لا يحكمه قانون وسنة ماضية وأن هذه المخلوقات كلها مرتبط بعضها ببعض ويؤثر بعضها في بعض. وقد توالت الاكتشافات التي تؤكد هذه الخاصية في القرون الأخيرة، كل اكتشاف يقرب حقيقة وحدة الوجود الدالة على وحدة الخالق حتى صار علماء الفيزياء يتحدثون عن "نظرية التوحيد الكبرى" أو باللغة الإنجليزية: "Grand unified theory "، من خلال تراكم الاكتشافات العلمية الكبرى كقانون الجاذبية العام ومعادلات الكهرومغنطيس ونظرية الإلكتروديناميك الكوانتية أو نظرية الكم Quantum Theory ) ) إلى نظرية الكهروضعيفة التي تؤدي كلها إلى الإيضاح الرياضي البديع لانتظام الأرض وخضوعها لقوانين صارمة لحمايتها واستمرارها بما يبين وجود خالقها وعظمته ووحدانيته. فأثبت العلماء أخيرا من خلال هذه المسيرة العلمية بأن "أن كل جزء من العالم يحتوي على المعلومات الموجودة في الكون كله"، "فالأشجار والنباتات والحيوان والإنسان، ما هي إلا مرايا في مواجهة بعضها البعض، تعكس صورًا لا نهائية، لموجودات متشابهة في التكوين، تبعًا لأصلها، ولكن لكلٍّ حياة خاصة به".
ـ //عدم المحاباة وجريانها على كل الخلق بنفس القواعد:
فهي لا تتصرف في الناس وفق تاريخهم وانتمائهم والمعتقدات التي يعلنونها، فليس متاحا لمسلم أن يُنصَر ويظفر ويسعد في الدنيا لمجرد أنه مسلم، فلو كان ذلك حقا لما انهزم جيش رسول الله في غزوة أحد التي هي سبب نزول هذه الآية. فالمسلم وهو مسلم عليه أن يأخذ بأسباب القوة والتوفيق والنجاح وأن يبتعد عن أسباب الضعف والتسويف والتمني، فالله تعالى حينما قال للمؤمنون في سورة الأنفال الآية 60: ((وأَعِدُّوا لهَمْ مَا استَطَعْتُم مِن قُوَّةٍ ومِنْ رِبَاطِ الخَيْلِ تُرهِبُون به عدُوَّ اللهِ وعَدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم، وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون)) فهو لا يحتاج إليهم، وهو قادر على نصرتهم بلا أسباب، ولكنه أراد سبحانه أن يربيهم على احترام السنن والانضباط بها فإن فعلوا ذلك فإنه سبحانه وتعالى يزيدهم من فضله فيؤيدهم على عدوهم، وإن لم توصلهم استطاعتهم ليكونوا على عدته وعدده. كما أن الهزيمة والتقهقر والاضمحلال يصيب المؤمن كما يصيب الكافر إذا توافرت أسباب ذلك ولا ينفع إيمان مع قعود أو ضعف أو تمنٍّ أو تسويف واتكال، أو اقتراف أنواع السوء والظلم والاعتداء، يقول الله تعالى في سورة النساء الآية 123 ((لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً)). فقد ينصر الله الكافر إذا أحسن ويهزم المؤمن إذا أساء، يقول ابن تيمية: "إن الله تعالى ينصر الدولة العادلة أو يقيم الدولة العادلة ولو كانت كافرة، ولا يقيم الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة، أو مؤمنة، فالباغي يصرع في الدنيا، وإن كان مغفوراً له مرحوماً في الآخرة، وذلك لأن العدل هو نظام كل شيء، فإذا أقيم أمر الدنيا بالعدل قامت، وإن لم يكن لصاحبها عند الله تعالى من خلاق".
لقد برع العرب والمسلمون في اكتشاف أسرار الكون ونقلوا ما وصلت إليه البشرية من قبلهم في مختلف المجالات حتى بَنَوْا حضارة علمية لا مثيل لها عاد خيرها على الإنسان والمحيط واستفاد منها المسلم وغير المسلم، ولكن حينما تراخوا وفسدت أحوالهم وضعف التزامهم بدينهم الذي به طلبوا العلم، وقصروا في مواصلة النظر في الكون وتسخيره، أعطى الله الريادة لمن اجتهد أكثر منهم ممن درسوا وتتلمذوا عندهم وأخذوا مفاتيح العلوم في معاهدهم وجامعاتهم من الأوربيين والغربيين ومن لحق بهم من الأمم الأخرى، فبرزت الحضارة المعاصرة التي وصلت إنجازاتها العلمية حدا يتجاوز الخيال، وضمنت قوانينهم ومواثيقهم العدل والمساواة بينهم فلم يصبح بمقدور حاكم أن يطغى عليهم. غير أن تقدم الغربيين في مجال فهم القوانين الكونية وتسخيرها لم يكن على هدى من الله فلم تغنهم الآيات والنذر التي رأوها في الكون ولم يستفيدوا من السنن الاجتماعية التي طوعوها، فنشأت حضارتهم على المادية والأنانية الفردية فكان تطورهم منقوصا من الناحية الإنسانية فظلموا غيرهم من الشعوب واستعبدوا الناس واستغلوا خيراتهم واعتدوا على البيئة والطبيعة ثم أخذوا ينقلبون شيئا فشيئا على المبادئ والقواعد والقوانين التي اكتشفوها وبنوا عليها قوتهم وحضارتهم، فها هم اليوم يعيشون ويتسببون في أزمات اقتصادية واجتماعية وبيئية خطيرة تنذر ببداية دولة الدهر عليهم. وكل هذا يدل على أن اكتشاف أسرار الكون وقواعد الحياة الاجتماعية لا يتوقف، في كل عصر يتعلم الإنسان ما لم يكن يعلم كما قال تعالى في سورة القلم الآية 5: ((علم الإنسان ما لم يعلم)). فمن أخذ بأسباب العلم ونظر في ملكوت السماوات والأرض وفي تجارب البشر تحكم في سلطان العلم المتاح له، وحقق في عصره القسط الذي يأذن به الله تعالى من التطور والتقدم. غير أن هذا التطور إن لم يكن وفق القواعد الأخلاقية المغروسة في فطر البشر والتي يهدي إليها الوحي ويلزم بها الشرع تتعاظم مخاطره على الإنسان نفسه والطبيعة التي يعيش فيها بقدر ابتعاده عن الأخلاق الفطرية والهداية الإلهية. وباعتبار أن أمة الإسلام هي صاحبة الرسالة السماوية الخاتمة والخالدة فإن مسؤوليتها ـ في الأخذ بناصية العلم والنظر واكتشاف القوانين والسنن ـ كبيرة لكي يُحفظ الإنسان من الاغترار بما ينفذ إليه من عجائب السماوات والأرض فينسى ربه ونفسه، ولكي لا تُستعمل قوة العلم للظلم والطغيان والقتل والدمار، ولكي يصحب التطور العلمي تطورا متوازيا في المعاني الإنسانية والالتزام بالقواعد الأخلاقية، فيسعد الناس جميعا بمنجزاتهم الحضارية كما كان الحال في عهد الحضارة الإسلامية.
ـ // الاطراد وعدم التوقف أو التبديل:
فقد خلق الله الخلق على طرائق ثابتة، وتفاعلات رتيبة يكون شأنها في الأمم التالية كشأنها في الأمم السابقة لا تتبدل ولا تتغير، كلما فعل من لحق فِعلَ من سبق يصيب المُتَّبِع ما أصاب المُتَّبَع، وهو لعمري شأن عظيم يبينه الله لمن أراد أن يتدبر في هذه الآيات فيعمل عملا صائبا يجنبه أخطاء السابقين ومهالكهم. وهذا الذي يقوله ابن تيمية معرفا السنة "و السنة هي العادة التي تتضمن أن يفعل في الثاني مثل ما فعل بنظيره الأول، ولهذا أمر الله تعالى بالاعتبار". ويقوله كذلك محمد عبده: "السنن.. الطرائق الثابتة التي تجري عليها الشؤون وعلى حسبها تكون الآثار، وهي التي تسمى شرائع أو نواميس ويعبر عنها قوم بالقوانين". وهي على هذا النحو دائمة مطردة لا تتبدل ولا تتغير تظهر في الآخرين إذا ظهرت فيهم أفعال الأولين بلا تبديل ولا تغيير كما قال تعالى في سورة الفتح الآية 23 ((سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا)).
ولا تخالف المعجزات والكرامات وما شابهها من إلهام وتوفيق هذا المنطق السنني، فالمعجزات والكرامات سنن خارقة يجريها الله بإرادته لتنضبط منظومة السنن الجارية. فالله تعالى يجري الأمور بين الحين والحين على غير عادتها ليظهر للناس عظمته وأنه هو من يعجز الظواهر الرتيبة ولا تعجزه، وهو بهذه الخوارق المباشرة وغير المباشرة يؤيد جنده وأولياءه، كالمعجزة التي يختص بها الله أنبياءه مثل عصا موسى، وانقلاب النار بردا وسلاما على إبراهيم، وإنزال المائدة وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بالنسبة إلى عيسى، وإنطاق الشجر وذراع الشاة المسمومة وتفجر الماء من بين الأصابع التي خص الله بها سيدنا محمدا عليه وعلى سائر الأنبياء أفضل الصلاة وأزكى التسليم، أو كالكرامة التي يمنحها الله لأوليائه ومنها الرزق الذي ساقه لمريم عليها السلام الذي ذكره الله في القرآن، وحديث الغلام الذي يأتي الساحر والراهب، وحديث جريج، وحديث أصحاب الغار الذين أطبقت عليهم الصخرة، وحديث الرجل الذي سمع صوتاً في السحاب يقول: اسق حديقة فلان، وغير ذلك مما ورد في السنة الصحيحة وما يظهر بين الحين والحين في حياة الصالحين الذين يكرهون أن يرى الناس ما يحصل لهم من كرامة وتأييد، عكس المشعوذين والدجالين والمرائين الذين يستعينون بالجن وبالحيل فيسحروا أعين الناس ويسترهبوهم حتى تخيل لهم الأشياء على غير حقيقتها. وهذه الخوارق تندرج ضمن منظومة أخرى من السنن تسمى السنن الخارقة وهي السنن التي تخرج على المألوف مثلها مثل الظواهر الطبيعية كالزلازل والبراكين التي تظهر للناس غير طبيعية ولكنها هي كذلك تخضع لقوانين لها أثر كبير في توازن الكون وانضباطه. وقد يكون تأييد الله لعباده بطرق غير مباشرة كتأييد الملائكة التي لا ترى، أو تهيئة الأسباب والظروف المساعدة، أو الإلهام والتوفيق والسداد الذي يمنحه الله. غير أن هذه الخوارق بمختلف أنواعها لا تصلح أن تكون سببا يعتمد عليه المؤمنون في حياتهم، بل يُعتبر الانشغال بها والهوس بتجلياتها انحرافا يخالف الأوامر الإلهية الموجهة للعمل والبذل وانتظار التأييد من الله بالدعاء والتوكل عليه كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نظم الجيش في غزوة بدر وأعد كل ما قدر عليه ثم توجه إلى الله بالدعاء والتضرع فسمعه الله وأجاب دعاءه ونصره على المشركين رغم كثرتهم وعدتهم.
0 commentaires:
إرسال تعليق