- نحو خدمة علم السنن الاجتماعية - الحلقة الرابعة -




قال الله تعالى: (( قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ 140)) سورة آل عمران، حزب 7 الآيات 137- 140

تتحدث هذه الآيات عن شأن عظيم من شؤون الاجتماع البشري وعلاقة أهل الإيمان به، وفيها تبيين لقواعد جارية في حياة البشر، وسنن ماضية في تطور الأفراد والمنظمات والمجتمعات والدول والحضارات، لا تتغير ولا تتبدل، مثلها مثل قواعد الفيزياء والرياضيات والبيولوجية والفلك وغيرها التي تتشكل على أساسها الحياة. 
و بفضل الله وفقت في انجاز بحث حول هذه الآيات أعرضه ضمن حلقات متتابعة مواصلة لسلسلة التأملات في القرآن الكريم التي كنا قد بدأناها قبل أشهر 

||>> نحو خدمة علم السنن الاجتماعية - الحلقة الرابعة - 


ـ >> أهمية دراسة علم السنن الاجتماعية:



بعد أن قرر الله تعالى بأن الحياة الاجتماعية بنيت منذ الأزل على سنن وقواعد، أمر بدراسة هذه السنن والنظر فيها والتدبر في آثارها والاهتداء بحكمها. والأمر هنا واضح والطلب صارخ، ورغم هذا التوجيه البين وهذه الإشارات القوية إلى معنى السنة والسنن، لا نجد عند المتقدمين اهتماما كبيرا بعلم السنن. ولا يقصد بالمتقدمين الصحابة رضوان الله عليهم، فالعلوم في عهدهم جلها لم تكن مدونة وكانوا يتعاملون في الشؤون كلها بالسليقة وبالمنهج الذي تعلموه مباشرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كانوا بارعين في الأمر كله لاقتراب وجودهم بعهد النبوة وللتميز الشخصي الذي كان عليه كبارهم كأبي بكر وعمر وغيرهما، ومن أحسن ما كانوا يتميزون به رضي الله عنهم جميعا ويمارسونه هو علمهم بأحوال الناس وقبائلهم وأنسابهم وأحوالهم وعلمهم بكتاب الله وما فيه من قصص الأمم الغابرة فكانوا يتحكمون في علم السنن الاجتماعية دون الحاجة للكتابة والتدوين. 

غير أن العيش في أمة قوية ودولة عظيمة أسسها هؤلاء لم تُشعر من جاء بعدهم بالحاجة لوضع قواعد علوم السنن واشتغلوا بحاجتهم لعلوم العبادات والمعاملات واكتشاف علوم الكون، ومع تعاقب الأزمنة توقف الاجتهاد في البحث العلمي في مجال علوم الكون من رياضيات وفيزياء وطب وكيمياء وغيرها واستمر الانشغال بتفريعات علم الكلام وفقه العبادات، ولم يحدث أن انشغلت الأمة الإسلامية انشغالا منهجيا تراكميا في مجال العلوم الاجتماعية وما يتصل بها، سوى ما كُتب من مصنفات سجلت وقائع تاريخية لم تنل من التدقيق والتمحيص والدراسة والتأمل ما يجعلها علما قائما بذاته. رغم هذا التقصير عند المتقدمين فإن المساهمة الإسلامية في وضع قواعد علم السنن في العصور اللاحقة مهمة جدا إذا ما أخذنا الاحتفاء الكبير بما كتبه عبد الرحمن بن خلدون في المقدمة عند مختلف أمم الأرض. غير أن إنجازات ابن خلدون التي صارت مرجعا كبيرا في علم الاجتماع والعمران والتطور الحضاري للشعوب في الجامعات الغربية لم يتبعها اهتمام عند المسلمين بهذا الفن العظيم الذي أمرنا الله بالانشغال به، وقد يكون ذلك بسبب تسارع التخلف والانحطاط الذي بدأ في الأمة الإسلامية منذ ذلك الوقت. ورغم المجهودات الكبيرة التي بذلها ويبذلها كثير من العلماء والمفكرين في دعوة الأمة للاهتمام بعلوم السنن وبناء مجتمعات إسلامية قوية على أساسها كمالك بن نبي ومحمد الغزالي وطه جابر العلواني ومحمد عبيد حسنة وعماد الدين خليل والصلابي وأصحاب الاتجاه الاجتماعي في التفسير من قبلهم كرشيد رضا ومحمد الطاهر بن عاشور وغيرهم، لم يتبلور إلى الآن اتجاه إسلامي علمي قوي وراسخ في مجال علوم السنن الاجتماعية وما يتصل بها من مختلف الاختصاصات بما يجعل التطور المجتمعي ظاهرة دائمة متصلة عبر الأزمنة والقرون وليس طفرات تاريخية تظهر مع هذا القائد أو ذاك ممن يوفقهم الله للتحكم في قواعد البناء الاجتماعي ثم ينهار كل شيء بعد غيابهم أو ربما لا يكتمل بنيانهم بعد ذهابهم أو يطول تشييده بسبب عدم توريثهم قواعد علمية ثابتة. 

رغم الأهمية الكبيرة للعلوم الكونية وما يترتب عليها من خدمات جليلة للبشرية وقوة جبارة لمن يتحكم فيها فإن دراسة السنن الاجتماعية أكثر أهمية منها، وهي سابقة في الأولوية عليها، لأن الدراسات الاجتماعية هي التي تُبنى عليها المجتمعات المُنظمة وتؤسس الثقافات الفاعلة وتُشيد المؤسسات القوية التي تمكن من خوض معركة العلم واكتشاف الآيات الكونية. وكلما كانت هذه الدراسات الاجتماعية مبنية على قواعد الأخلاق وهداية الوحي كانت العلوم المتوصل إليها صالحة للبشر نافعة للدنيا والدين. ولو تتبعنا صعود وسقوط الأمم لوجدنا بأن كل نهضة علمية سبقتها نهضة فكرية اجتماعية. فالأمة العربية نهضت بعد أن أصلحت فكرها ومعتقداتها بوحي القرآن، وأعادت بناء مجتمعها على أساس الفكر الجديد، ونظمت علاقاتها من منطلق الوشائج الجديدة، وحافظت على القديم الصالح وانفتحت بعد ذلك على المكتسبات البشرية الأخرى وأخضعت القديم والحديث لمنهجها الجديد، فلما صارت قوية وجذابة التحقت بها أمم أخرى كثيرة تركية وفارسية وهندية وإفريقية وغيرها، منها من احتل ريادة المسلمين وريادة العالم من عرب وغيرهم بنفس المنهج ونفس الفكر. 

والغرب كذلك لم يخرج من التخلف إلا حينما نشأت فيه صحوة فكرية بين القرنين الرابع عشر والسادس عشر غيرت القواعد المجتمعية وأنماط التعامل وسلوك الأفراد فنشأت ثقافة الفاعلية والنمو والتطور والحرية فبنت على أساس ذلك التطور العلمي الذي هي عليه اليوم. إن تطور علوم الآيات الكونية أو ما يسمى اليوم بالتطور التكنولوجي هو منتج بشري حيادي قابل للتنقل بين الشعوب بالتعلم وشراء المنظومات التقنية بل والمناهج والعقول، ولكن النظم الاجتماعية غير قابلة للتصدير فهي مرتبطة بثقافات الأمم والشعوب وعلى كل شعب أن يكتشف منظومته التي تتناسب مع ثقافته فإذا كانت المنظومة الاجتماعية صالحة استمر تسخيرها للعلوم التقنية فإن انهارت المنظومة الاجتماعية تسقط الأمم والشعوب وتبقى منجزاتها العلمية التقنية قائمة ترثها الأمم والشعوب المنتصرة. على هذه القاعدة ورثت الحضارة الإسلامية منجزات الحضارة اليونانية دون نقل ثقافتها، كما ورثت الحضارة الغربية منجزات الحضارة الإسلامية دون أخذ معتقداتها. 
وقد يقع التوارث التقني داخل الأمة الواحدة فيرث شعب الميراث العلمي لشعب شقيق يجتمع معه في المعتقدات الكبرى فيبقى يتقاسمها معه ولكنه لا يأخذ خصائصه الثقافية الفرعية، كما وقع بين العرب والفرس أو العرب والأتراك أو الفرس والأتراك. أو ما وقع بين الألمان والروس من جهة والألمان والأمريكان من جهة أخرى داخل الحضارة الغربية، فقد استطاع الألمان أن يُطوعوا التكنولوجية في عهد النازية بروح التحدي والإتقان والعزة الجرمانية فسبقوا الغرب في كثير من المنجزات العلمية والصناعات الحربية ولكن لما كانت منظومتهم الاجتماعية متطرفة في العنصرية والعدوانية لم يطل مجدها فسقطت ألمانيا وبقيت منجزاتها وشخصياتها العلمية قائمة ورثتها روسيا وأمريكا وطورت منها كثيرا من آثار العظمة والتميز التي عُرف بها البلدان.



ـ ||>>> يتبع ...

0 commentaires:

إرسال تعليق

Loading

تابعنا

Twitter Facebook Favorites