الوسطية في السياسة (2)



((وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً)) البقرة 143

نسمي شق التطرف الموالي للنظام بلا فكر ولا رؤية : شق التطرف أ
ونسمي شق التطرف المعارض للنظام بلا فكر ولا رؤية: شق التطرف ب


ثانيا: حديثنا هذه المرة لشق التطرف أ: من عيوب هذا النوع من الموالين أنهم لا يعرفون الفرق بين الدولة والنظام فبالنسبة إليهم كل من يعارض نظام الحكم هو ضد الدولة الجزائرية وضد مؤسسة الجيش الوطني الشعبي وبالتالي هو خائن وغير وطني وربما عميل لقوى أجنبية، وهي حيلة يستعملها المستبدون منذ زمن طويل للهيمنة على الحكم والتفرد بالسلطة وقمع المخالفين إلى الأبد، ويستعملون في ذلك أجهزتهم الأمنية وإعلامهم التابع و"المستقل !" ويستخدمون المنتفعين والمتزلفين والسذج والجبناء والأغبياء من السكان.

استعملت هذه الحيلة في بداية التسعينيات حينما اهتزت أركان الوطن ودخل في فتنة عظيمة وأصبحت الدماء تسيل في الطرقات والرؤوس تعلق على الأعمدة فوقف كثير من الوطنيين الصادقين مع الوطن ومع مؤسسات الدولة ولم ينتبهوا (أو ربما لم يكن لهم خيار) بأن النظام الذي يسكن الدولة كان يستغل الأحداث ويستغلهم ويستغل الوطن. وفعلا حينما انجلت الفتنة انجلت على وضع سياسي متعفن تحكّم فيه النافذون في السلطة على مقدرات الوطن وجعلوا الفساد وبناء شبكاته المالية هو قاعدة الحكم.

هذه المرة لن تنطلي الحيلة، الخطر اليوم هو الفساد ولوبيات المال الوسخ وليس الإرهاب. لقد صار الإرهاب أداة تستعمله كل أجهزة الاستخبارات العالمية، ولا يخفى على من يملك الحد الأدنى من الثقافة السياسية بأنه حيث يوجد البترول والغاز توجد القاعدة وغيرها من المجموعات المسلحة وحيث توجد القاعدة وغيرها من المجموعات المسلحة يوجد البترول والغاز، وكل تلك الصور للملتحين ولأشكالهم ولباسهم ولخطابهم الديني مما يصور لنا في قنوات التلفزيون لا تقنعنا في شيء حتى وإن كان بعض أصحابها حقيقيين. 

وبغض النظر عن خلفيات وأبعاد الحرب على مالي والعدوان على محطة الغاز في عين أم الناس التي سنكتب فيها مقالا يوضح الأمر، نحن نقف مع جنودنا في المؤسسة العسكرية الجزائرية ونفتخر بقوة الجيش الجزائري الذي نعرف أهميته وقوته أكثر مما يعرفه المتزلفون، ولكن نحن نعترض على من يضعف مصداقيته باستعماله في المنافسة السياسية في زمن الانتخابات ومن يريد اليوم توريطه في حرب تزتنزفه وتزتنزف مقدرات الوطن بلا فائدة ولصالح الأطماع الأجنبية ولمصلحة مجموعات مصالح جزائرية.

والحديث السياسي الذي يجب التركيز عليه ليس فقط الإنجاز الذي حققه الجيش الوطني الشعبي بتحرير الرهائن مع الإلحاح الشديد على الشفافية في تناول الموضوع وإظهار الحقائق كما وقعت والسماح للإعلاميين للوصول للمعلومة وفق المعايير الديمقراطية الحقة، ولكن كذلك وخصوصا كيف تم الاختراق؟ وكيف مرت هذه المجموعات الإرهابية؟ وكيف مررت السلاح؟ وكيف استطاعت أخذ كل هؤلاء الرهائن؟ ولماذا لم يحاسب أحد على هذا؟ هذا هو معنى حبنا للوطن الذي نريده أن يكون آمنا شامخا مزدهرا متطورا متآخيا متراحما لا ألعوبة في يد الفاسدين والمتعطشين للسلطة.

د. عبد الرزاق مقري

الوسطية في السياسة (1)



وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً)) البقرة 143


حينما قرأت تعليقات المتصفحين وجدت أن المعترضين الذين يتعرضون إلينا بالشتم أو يتهموننا ظلما بما ليس فينا صنفان: صنف حاقد منغلق صدامي لا يوجد في حياته إلا مواجهة نظام الحكم بالحق والباطل و يتهمنا بأننا كنا في الحكومة فكيف نعارض الآن، وصنف مغرور وحاقد كذلك ويتزلف لنظام الحكم ويدافع عنه بالحق والباطل ويؤلمه كذلك أننا كنا في الحكومة والآن نعارضها. وهذا لعمري دليل على استقامة منهجنا واستمراره ونجاحه بإذن الله إذ نقع بين طرفي التطرف في الجزائر الذين تسببوا في الأزمة التي نعيشها كما سنبين عبر هذه السلسلة الجديدة. وهو في نفس الوقت برهان على الهزال السياسي وضآلة الفكر عند هؤلاء وهؤلاء، هداهم الله وإيانا وعلمنا وإياهم.

ونقول لهم ما يلي:

أولا ـ في كل أنحاء الدنيا وفي كل الأجيال وأصناف البشر ينتقل الناس من رأي إلى رأي ومن موقف إلى موقف وفق تقديرات المصلحة وتوجيه المبادئ، ولا أخالف أنة ثمة من يتحول كالحرباء من أجل مصالحه الشخصية على حساب المصلحة العامة، ولكن من الذي دخل قلوبنا وفحص ضمائرنا فعلم بأننا تحولنا من الحكومة إلى المعارضة من أجل المصلحة الشخصية وليس المصلحة العامة، ألم يغير علماؤنا آراءهم وفتواهم حينما تغيرت البيئة والظروف، ألا يعرف هؤلاء أصل تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان. ثم لماذا لا يقول الناس في الدول المتقدمة والأنظمة الديمقراطية للحزب الذي كان في الحكومة ( يحكم وحده أو متحالفا) ثم خرج منها لما خسر الانتخابات ( كما وقع لنا نحن كما يقول طرفا التطرف) بأنه لا يحق لك أن تعارض الآن لأنك كنت في الحكومة؟.
...يتبع... 


ملاحظة: سيكون الحوار مشوقا !!!!، وسيظهر جمال وفائدة الحرية، نتحاور عبر صفحات التواصل الاجتماعي بلا رقابة حكومية، ولا مقص، ولا تعسف صحفي ظالم جائر أو أجير...( السلبية الوحيدة أن كثيرا من المعلقين لا يستعملون أسماءهم وصورهم الحقيقية)

نحو خدمة علم السنن الاجتماعية - الحلقة الخامسة -





قال الله تعالى: (( قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ 140)) سورة آل عمران، حزب 7 الآيات 137- 140

تتحدث هذه الآيات عن شأن عظيم من شؤون الاجتماع البشري وعلاقة أهل الإيمان به، وفيها تبيين لقواعد جارية في حياة البشر، وسنن ماضية في تطور الأفراد والمنظمات والمجتمعات والدول والحضارات، لا تتغير ولا تتبدل، مثلها مثل قواعد الفيزياء والرياضيات والبيولوجية والفلك وغيرها التي تتشكل على أساسها الحياة. 
و بفضل الله وفقت في انجاز بحث حول هذه الآيات أعرضه ضمن حلقات متتابعة مواصلة لسلسلة التأملات في القرآن الكريم التي كنا قد بدأناها قبل أشهر 

||>> نحو خدمة علم السنن الاجتماعية - الحلقة الخامسة - 

ـ >> أهمية دراسة علم السنن الاجتماعية -تكملة- :


إننا حينما ننظر إلى واقع المجتمعات الغربية خصوصا في بداية تأسيس النهضة الأوربية نجد بأن أعلى درجات سلم القيم العلمية يتربع عليها رواد العلوم الاجتماعية. والعلوم الاجتماعية هي المناهج العلمية التي تدرس أصول نشأة المجتمعات البشرية والمؤسسات ومختلف العلاقات والروابط الاجتماعية وكذا المبادئ المؤسسة للحياة الاجتماعية والتفاعلات المعنوية والنفعية بين الناس والنظم الحاكمة لهذه العلاقات والتفاعلات. ومن هذه العلوم علم الاجتماع ذاته وعلم الاقتصاد والقانون والسياسة وعلم النفس وعلم الإنسان (الأنثربولوجيا)، وإدارة الأعمال، ويمكن أن يضاف إلى هذه المواد ما اصطلح عليه بالعلوم الإنسانية كالتاريخ والفلسفة والآداب والفنون وغيرها. فعلماء هذه الاختصاصات هم قادة المجتمع في الغرب وواضعو أسسه، ولا يدخل معاهد وجامعات هذه الاختصاصات إلا المتفوقون من الطلبة. ولعلمهم بأهمية هذا الاتجاه وتأثيره في بناء الثقافات والاتجاهات الفكرية المنشئة للنهضة زهَّد الاستعمار الغربي في المجتمعات العربية والإسلامية التي احتلها الأذكياء والمتفوقون في دراسة العلوم الاجتماعية، فكانوا في ثلاثينيات القرن الماضي في مصر مثلا، يمنعون ويخذِّلون المتفوقين من الطلبة المصريين عن التسجيل في كليات العلوم الاجتماعية، ويوجهونهم لمختلف العلوم الطبية وخاصة التقنية حتى يصرفوهم عن خدمة مجتمعاتهم في المجالات التي ينهضوا بها، ولكي تضيع قدراتهم العقلية وييأسوا من جدواها في المجتمعات العربية التي لا تملك البيئة العلمية التقنية المناسبة، ولكي تتم الاستفادة منهم في المختبرات والمصانع الغربية حينما يضطرون للهجرة تحت ضغط المعيشة أو الديكتاتورية أو البحث عن التطور العلمي في البيئات الغربية المناسبة. 


لقد نبه الله تعالى إلى هذا الصنف من العلوم قبل قرابة خمسة عشر قرنا وشدد على الاهتمام به بصيغ الأمر تارة كما في قوله تعالى ((فانظروا)) في هذه الآية وغيرها أو بصيغة التشنيع لمن انصرف عن هذا الأمر كما في قوله تعالى في سورة الحج الآية 46: ((أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)). فأخبر سبحانه في آيات عديدة بأنه أودع في الأرض وفي تاريخ السابقين كنوزا ثمينة هي لمن اكتشفها وتعلمها ورغب في الاستفادة منها. وبين أن إدراكها يكون بالتحرك والسير في رحاب الكوكب الأرضي واقتفاء آثار ومآثر وميراث من سبقهم. وفي هذا إشارة إلى أن للإسلام طبيعة متحركة لا تقبل الجمود والتوقف في مكان واحد وزمان واحد، وأنه يستحيل تحقيق الاستفادة من الأرض وتجارب السابقين بالقعود وعدم استعمال الحواس التي منحها الله للإنسان وعلى رأسها العقل الذي به يكون النظر. فالله تعالى حينما يقول سيروا في الأرض يُستفاد من هذا السيرُ الحسي والمعنوي، كما نُقل عن كثير من المفسرين، وفي كليهما يُحتاج للعقل للتأمل والتدبر واستخراج القواعد التي يُستفاد منها. فالنظر يكون من خلال السفر، الذي يعلي الله من شأنه في هذه الآيات، إذ من خلاله يتعرف الإنسان على عادات الناس وأنماط حياتهم فإذا استعمل عقله أمكنه معرفة جوانب القوة في خلالهم ومنظوماتهم التي بها يتفضّلون عن غيرهم وجوانب الضعف في طباعهم وطرائقهم التي بها يقصُرون ويصغرون أمام خصومهم. والنظر يكون كذلك بالسير قصد الاستخبار والتعلم ممن يملك العلم والخبر والمناهج من الرجال والمعاهد والكليات والجامعات المتخصصة في علوم السنن، ولا يقدر على هذا إلا من استعمل عقله ونظر به وصبر على العلم والتعلم. والنظر يكون كذلك بالسفر في الزمن الماضي ومعرفة وقائع التاريخ واستخراج العبر من أحداثه ووضع القواعد العلمية التي يعيش بها الإنسان حاضره ويتأهب بواسطتها لمستقبله برؤى علمية حكيمة حصينة، ولا يمكن فعل ذلك إلا باستعمال العقل كذلك والنظر به في شؤون الغابرين. 


إنه من العجب حقا أن يكون كل هذا في متناول المسلمين، باعتبارهم أصحاب هذا الكتاب العظيم الذي فصَّل لهم كل هذا التفصيل وأكَّد لهم كل هذا التأكيد، ثم يتأخرون في بناء منظومة علمية قوية يصلحون بها شأنهم ويعيشون بها الحياة الكريمة التي يريدها لهم ربهم. لقد تنبه كثير من العلماء والمفكرين المتأخرين إلى هذا الأمر فنادوا بضرورة بناء منظومة شاملة وصلبة في علوم السنن وما يتعلق بها ويخدمها من مختلف العلوم الاجتماعية التي تحدثنا عنها سابقا، ويعتبرون ذلك فرضا من فروض الكفاية، إذا لم يوجد من ينهض به تؤثم الأمة كلها، ومن هؤلاء الشيخ محمد عبده رحمه الله الذي كان من أوائل من دعا إلى دراسة علم السنن وتدوينه وتأصيل علم الاجتماع على قواعد إسلامية قرآنية متينة فيقول وفق ما نقله عنه رشيد رضا في المنار: "إرشاد الله إيانا إلى أن له في خلقه سنناً يوجب علينا أن نجعل هذه السنن علماً من العلوم المدونة لنستديم ما فيها من الهداية والموعظة على أجمل وجه فيجب على الأمة في مجموعها أن يكون لهم قوم يبينون لهم سنن الله في خلقه كما فعلوا في غير هذا العلم من العلوم والفنون التي أرشد عليها بالقرآن بالإجمال وقد بينها العلماء بالتفصيل عملاً بإرشاده كالتوحيد والأصول والفقه، والعلم بسنن الله –تعالى- من أهم العلوم وأنفعها والقرآن يحيل عليه في مواضع كثيرة وقد دلنا على مأخذه من أحوال الأمم إذ أمرنا أن نسير في الأرض لاجتلائها ومعرفة حقيقتها". وسار على نهجه تلميذه رشيد رضا الذي يعتبر تفسيره المنار أهم تفسير وقف عند آيات السنن وأعطاها أهمية كبرى ويعتبر رشيد رضا رحمه الله أن المقالات التي كان يكتبها محمد عبده في مجلة العروة الوثقى هي التي غيرت حياته وحولته من مؤمن صوفي مشغول بنجاة نفسه إلى حركة هادرة لا تتوقف من أجل نجاة الأمة وإحيائها. 


ومن هؤلاء كذلك الشيخ محمد الغزالي رحمه الله الذي بذل جهدا كبيرا من خلال كتاباته ودروسه للتنبيه إلى ضرورة الاهتمام بعلم السنن وإعطائه الأولوية على غيره من العلوم فقال في إحدى خواطره التلفزيونية حول القرآن الكريم التي أذيعت على تلفزيون الجزائر: "إن لله تبارك وتعالى سن سننا ثابتة وقوانين خالدة في سير المجتمعات البشرية تشبه السنن والقوانين التي تدور بها الأفلاك، وتتحرك بها المادة، وتضبط بها قوانينها في كل جامد وسائل، تلك هي القوانين التي تجعل مجتمعا يزدهر وآخر يضطرب، وحضارة تعلو وأخرى تكبو، هي القوانين التي تجعل أمة تنتصر وأخرى تنهزم، ولا بد أن يعرف الناس هذه القوانين وأن يتحاكموا إليها، أما التجاهل التام لها فلا يفيد، ولا بد أن تثأر تلك القوانين لنفسها بأن ينزل الله الناس على حكمها... فدراستها أجدى لأمتنا من دراسات أنواع النجاسة والطهارة، وأنواع الثمن والإجارة، وغير ذلك من عقود وعهود، فإن سنن الله الكونية وقوانينه الإلهية التي أثبتها القرآن الكريم أهم، لأنها أدل على معرفة الله وعلى فقه أسمائه الحسنى وصفاته العلى وأفعاله بين عباده". وذهب الدكتور علي الصلابي إلى نفس الاتجاه فقال في إحدى مساهماته المثيرة في هذا المجال: "يأتي هذا العلم من حيث الأهمية بعد العلم بالله ومعرفة الله وصفاته وأفعاله، فهو قبل أصول الفقه وقبل فقه الفروع وقبل علوم الآلة من حيث الأهمية، فهو من أقصر الطرق لمعرفة الله سبحانه وتعالى من خلال استيعاب سننه في خلقه وفي الكون ولأنه من أقوى الدلائل على وجود الخالق العظيم العليم الخبير القوي العزيز الذي أتقن كل شيء سبحانه وتعالى، ولأن هذا العلم من الوسائل العظيمة في حفظ دماء المسلمين وأعراضهم ودولتهم وحضارتهم ودينهم. وبالتالي هذا العلم يجب أن يسهل ويبسط ليكون في متناول القادة السياسيين والفقهاء والاقتصاديين وعامة المسلمين. وهو يدخل في المجال الاقتصادي والسياسي والإعلامي وفي المجال الشرعي في كل نواحي الحياة". 

- نحو خدمة علم السنن الاجتماعية - الحلقة الرابعة -




قال الله تعالى: (( قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ 140)) سورة آل عمران، حزب 7 الآيات 137- 140

تتحدث هذه الآيات عن شأن عظيم من شؤون الاجتماع البشري وعلاقة أهل الإيمان به، وفيها تبيين لقواعد جارية في حياة البشر، وسنن ماضية في تطور الأفراد والمنظمات والمجتمعات والدول والحضارات، لا تتغير ولا تتبدل، مثلها مثل قواعد الفيزياء والرياضيات والبيولوجية والفلك وغيرها التي تتشكل على أساسها الحياة. 
و بفضل الله وفقت في انجاز بحث حول هذه الآيات أعرضه ضمن حلقات متتابعة مواصلة لسلسلة التأملات في القرآن الكريم التي كنا قد بدأناها قبل أشهر 

||>> نحو خدمة علم السنن الاجتماعية - الحلقة الرابعة - 


ـ >> أهمية دراسة علم السنن الاجتماعية:

تأملات قرآنية 9 :نحو خدمة علم السنن الاجتماعية (3)





قال الله تعالى: (( قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ 140)) سورة آل عمران، حزب 7 الآيات 137- 140

تتحدث هذه الآيات عن شأن عظيم من شؤون الاجتماع البشري وعلاقة أهل الإيمان به، وفيها تبيين لقواعد جارية في حياة البشر، وسنن ماضية في تطور الأفراد والمنظمات والمجتمعات والدول والحضارات، لا تتغير ولا تتبدل، مثلها مثل قواعد الفيزياء والرياضيات والبيولوجية والفلك وغيرها التي تتشكل على أساسها الحياة. 
و بفضل الله وفقت في انجاز بحث حول هذه الآيات أعرضه ضمن حلقات متتابعة مواصلة لسلسلة التأملات في القرآن الكريم التي كنا قد بدأناها قبل أشهر 

||>> نحو خدمة علم السنن الاجتماعية - الحلقة الثالثة - 


ـ >> خصائص السنن: 


إن السنن الكونية أوجدها الله بإرادته وبالشكل الذي قدره ووفق الآثار التي رتبها عليها في الكون والحياة، فهي سنن ربانية منسوبة إليه سبحانه صنعها على خصائص جبلها عليها منها ما يلي:

ـ // الشمولية والارتباط والانتظام: 

إذ أن كل إنسان يستعمل حواسه فيتأمل في هذا الكون ومخلوقاته بمختلف أنواعها سيدرك بأن الترتيب والانتظام والانسجام هو القاعدة العامة التي تحكم كل أجزاء الكون وأنه لا يوجد شيء في الوجود لا يحكمه قانون وسنة ماضية وأن هذه المخلوقات كلها مرتبط بعضها ببعض ويؤثر بعضها في بعض. وقد توالت الاكتشافات التي تؤكد هذه الخاصية في القرون الأخيرة، كل اكتشاف يقرب حقيقة وحدة الوجود الدالة على وحدة الخالق حتى صار علماء الفيزياء يتحدثون عن "نظرية التوحيد الكبرى" أو باللغة الإنجليزية: "Grand unified theory "، من خلال تراكم الاكتشافات العلمية الكبرى كقانون الجاذبية العام ومعادلات الكهرومغنطيس ونظرية الإلكتروديناميك الكوانتية أو نظرية الكم Quantum Theory ) ) إلى نظرية الكهروضعيفة التي تؤدي كلها إلى الإيضاح الرياضي البديع لانتظام الأرض وخضوعها لقوانين صارمة لحمايتها واستمرارها بما يبين وجود خالقها وعظمته ووحدانيته. فأثبت العلماء أخيرا من خلال هذه المسيرة العلمية بأن "أن كل جزء من العالم يحتوي على المعلومات الموجودة في الكون كله"، "فالأشجار والنباتات والحيوان والإنسان، ما هي إلا مرايا في مواجهة بعضها البعض، تعكس صورًا لا نهائية، لموجودات متشابهة في التكوين، تبعًا لأصلها، ولكن لكلٍّ حياة خاصة به". 

ـ //عدم المحاباة وجريانها على كل الخلق بنفس القواعد:

فهي لا تتصرف في الناس وفق تاريخهم وانتمائهم والمعتقدات التي يعلنونها، فليس متاحا لمسلم أن يُنصَر ويظفر ويسعد في الدنيا لمجرد أنه مسلم، فلو كان ذلك حقا لما انهزم جيش رسول الله في غزوة أحد التي هي سبب نزول هذه الآية. فالمسلم وهو مسلم عليه أن يأخذ بأسباب القوة والتوفيق والنجاح وأن يبتعد عن أسباب الضعف والتسويف والتمني، فالله تعالى حينما قال للمؤمنون في سورة الأنفال الآية 60: ((وأَعِدُّوا لهَمْ مَا استَطَعْتُم مِن قُوَّةٍ ومِنْ رِبَاطِ الخَيْلِ تُرهِبُون به عدُوَّ اللهِ وعَدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم، وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون)) فهو لا يحتاج إليهم، وهو قادر على نصرتهم بلا أسباب، ولكنه أراد سبحانه أن يربيهم على احترام السنن والانضباط بها فإن فعلوا ذلك فإنه سبحانه وتعالى يزيدهم من فضله فيؤيدهم على عدوهم، وإن لم توصلهم استطاعتهم ليكونوا على عدته وعدده. كما أن الهزيمة والتقهقر والاضمحلال يصيب المؤمن كما يصيب الكافر إذا توافرت أسباب ذلك ولا ينفع إيمان مع قعود أو ضعف أو تمنٍّ أو تسويف واتكال، أو اقتراف أنواع السوء والظلم والاعتداء، يقول الله تعالى في سورة النساء الآية 123 ((لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً)). فقد ينصر الله الكافر إذا أحسن ويهزم المؤمن إذا أساء، يقول ابن تيمية: "إن الله تعالى ينصر الدولة العادلة أو يقيم الدولة العادلة ولو كانت كافرة، ولا يقيم الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة، أو مؤمنة، فالباغي يصرع في الدنيا، وإن كان مغفوراً له مرحوماً في الآخرة، وذلك لأن العدل هو نظام كل شيء، فإذا أقيم أمر الدنيا بالعدل قامت، وإن لم يكن لصاحبها عند الله تعالى من خلاق".
لقد برع العرب والمسلمون في اكتشاف أسرار الكون ونقلوا ما وصلت إليه البشرية من قبلهم في مختلف المجالات حتى بَنَوْا حضارة علمية لا مثيل لها عاد خيرها على الإنسان والمحيط واستفاد منها المسلم وغير المسلم، ولكن حينما تراخوا وفسدت أحوالهم وضعف التزامهم بدينهم الذي به طلبوا العلم، وقصروا في مواصلة النظر في الكون وتسخيره، أعطى الله الريادة لمن اجتهد أكثر منهم ممن درسوا وتتلمذوا عندهم وأخذوا مفاتيح العلوم في معاهدهم وجامعاتهم من الأوربيين والغربيين ومن لحق بهم من الأمم الأخرى، فبرزت الحضارة المعاصرة التي وصلت إنجازاتها العلمية حدا يتجاوز الخيال، وضمنت قوانينهم ومواثيقهم العدل والمساواة بينهم فلم يصبح بمقدور حاكم أن يطغى عليهم. غير أن تقدم الغربيين في مجال فهم القوانين الكونية وتسخيرها لم يكن على هدى من الله فلم تغنهم الآيات والنذر التي رأوها في الكون ولم يستفيدوا من السنن الاجتماعية التي طوعوها، فنشأت حضارتهم على المادية والأنانية الفردية فكان تطورهم منقوصا من الناحية الإنسانية فظلموا غيرهم من الشعوب واستعبدوا الناس واستغلوا خيراتهم واعتدوا على البيئة والطبيعة ثم أخذوا ينقلبون شيئا فشيئا على المبادئ والقواعد والقوانين التي اكتشفوها وبنوا عليها قوتهم وحضارتهم، فها هم اليوم يعيشون ويتسببون في أزمات اقتصادية واجتماعية وبيئية خطيرة تنذر ببداية دولة الدهر عليهم. وكل هذا يدل على أن اكتشاف أسرار الكون وقواعد الحياة الاجتماعية لا يتوقف، في كل عصر يتعلم الإنسان ما لم يكن يعلم كما قال تعالى في سورة القلم الآية 5: ((علم الإنسان ما لم يعلم)). فمن أخذ بأسباب العلم ونظر في ملكوت السماوات والأرض وفي تجارب البشر تحكم في سلطان العلم المتاح له، وحقق في عصره القسط الذي يأذن به الله تعالى من التطور والتقدم. غير أن هذا التطور إن لم يكن وفق القواعد الأخلاقية المغروسة في فطر البشر والتي يهدي إليها الوحي ويلزم بها الشرع تتعاظم مخاطره على الإنسان نفسه والطبيعة التي يعيش فيها بقدر ابتعاده عن الأخلاق الفطرية والهداية الإلهية. وباعتبار أن أمة الإسلام هي صاحبة الرسالة السماوية الخاتمة والخالدة فإن مسؤوليتها ـ في الأخذ بناصية العلم والنظر واكتشاف القوانين والسنن ـ كبيرة لكي يُحفظ الإنسان من الاغترار بما ينفذ إليه من عجائب السماوات والأرض فينسى ربه ونفسه، ولكي لا تُستعمل قوة العلم للظلم والطغيان والقتل والدمار، ولكي يصحب التطور العلمي تطورا متوازيا في المعاني الإنسانية والالتزام بالقواعد الأخلاقية، فيسعد الناس جميعا بمنجزاتهم الحضارية كما كان الحال في عهد الحضارة الإسلامية. 

ـ // الاطراد وعدم التوقف أو التبديل:

فقد خلق الله الخلق على طرائق ثابتة، وتفاعلات رتيبة يكون شأنها في الأمم التالية كشأنها في الأمم السابقة لا تتبدل ولا تتغير، كلما فعل من لحق فِعلَ من سبق يصيب المُتَّبِع ما أصاب المُتَّبَع، وهو لعمري شأن عظيم يبينه الله لمن أراد أن يتدبر في هذه الآيات فيعمل عملا صائبا يجنبه أخطاء السابقين ومهالكهم. وهذا الذي يقوله ابن تيمية معرفا السنة "و السنة هي العادة التي تتضمن أن يفعل في الثاني مثل ما فعل بنظيره الأول، ولهذا أمر الله تعالى بالاعتبار". ويقوله كذلك محمد عبده: "السنن.. الطرائق الثابتة التي تجري عليها الشؤون وعلى حسبها تكون الآثار، وهي التي تسمى شرائع أو نواميس ويعبر عنها قوم بالقوانين". وهي على هذا النحو دائمة مطردة لا تتبدل ولا تتغير تظهر في الآخرين إذا ظهرت فيهم أفعال الأولين بلا تبديل ولا تغيير كما قال تعالى في سورة الفتح الآية 23 ((سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا)). 
ولا تخالف المعجزات والكرامات وما شابهها من إلهام وتوفيق هذا المنطق السنني، فالمعجزات والكرامات سنن خارقة يجريها الله بإرادته لتنضبط منظومة السنن الجارية. فالله تعالى يجري الأمور بين الحين والحين على غير عادتها ليظهر للناس عظمته وأنه هو من يعجز الظواهر الرتيبة ولا تعجزه، وهو بهذه الخوارق المباشرة وغير المباشرة يؤيد جنده وأولياءه، كالمعجزة التي يختص بها الله أنبياءه مثل عصا موسى، وانقلاب النار بردا وسلاما على إبراهيم، وإنزال المائدة وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بالنسبة إلى عيسى، وإنطاق الشجر وذراع الشاة المسمومة وتفجر الماء من بين الأصابع التي خص الله بها سيدنا محمدا عليه وعلى سائر الأنبياء أفضل الصلاة وأزكى التسليم، أو كالكرامة التي يمنحها الله لأوليائه ومنها الرزق الذي ساقه لمريم عليها السلام الذي ذكره الله في القرآن، وحديث الغلام الذي يأتي الساحر والراهب، وحديث جريج، وحديث أصحاب الغار الذين أطبقت عليهم الصخرة، وحديث الرجل الذي سمع صوتاً في السحاب يقول: اسق حديقة فلان، وغير ذلك مما ورد في السنة الصحيحة وما يظهر بين الحين والحين في حياة الصالحين الذين يكرهون أن يرى الناس ما يحصل لهم من كرامة وتأييد، عكس المشعوذين والدجالين والمرائين الذين يستعينون بالجن وبالحيل فيسحروا أعين الناس ويسترهبوهم حتى تخيل لهم الأشياء على غير حقيقتها. وهذه الخوارق تندرج ضمن منظومة أخرى من السنن تسمى السنن الخارقة وهي السنن التي تخرج على المألوف مثلها مثل الظواهر الطبيعية كالزلازل والبراكين التي تظهر للناس غير طبيعية ولكنها هي كذلك تخضع لقوانين لها أثر كبير في توازن الكون وانضباطه. وقد يكون تأييد الله لعباده بطرق غير مباشرة كتأييد الملائكة التي لا ترى، أو تهيئة الأسباب والظروف المساعدة، أو الإلهام والتوفيق والسداد الذي يمنحه الله. غير أن هذه الخوارق بمختلف أنواعها لا تصلح أن تكون سببا يعتمد عليه المؤمنون في حياتهم، بل يُعتبر الانشغال بها والهوس بتجلياتها انحرافا يخالف الأوامر الإلهية الموجهة للعمل والبذل وانتظار التأييد من الله بالدعاء والتوكل عليه كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نظم الجيش في غزوة بدر وأعد كل ما قدر عليه ثم توجه إلى الله بالدعاء والتضرع فسمعه الله وأجاب دعاءه ونصره على المشركين رغم كثرتهم وعدتهم.


تأملات في السيرة النبوية 8 :نحو خدمة علم السنن الاجتماعية (2)




قال الله تعالى: (( قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ 140)) سورة آل عمران، حزب 7 الآيات 137- 140

تتحدث هذه الآيات عن شأن عظيم من شؤون الاجتماع البشري وعلاقة أهل الإيمان به، وفيها تبيين لقواعد جارية في حياة البشر، وسنن ماضية في تطور الأفراد والمنظمات والمجتمعات والدول والحضارات، لا تتغير ولا تتبدل، مثلها مثل قواعد الفيزياء والرياضيات والبيولوجية والفلك وغيرها التي تتشكل على أساسها الحياة. 
و بفضل الله وفقت في انجاز بحث حول هذه الآيات أعرضه ضمن حلقات متتابعة مواصلة لسلسلة التأملات في القرآن الكريم التي كنا قد بدأناها قبل أشهر 

||>> نحو خدمة علم السنن الاجتماعية - الحلقة الثانية - 

ـ >> تعريف السنن: 

يبين الله في مستهل الآية الأولى حقيقة عظيمة ما كان لرسول الله أن يعرفها لو لم تكن وحيًا أوحيت له عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، إذ يقرر الله بأن الأرض خُلقت منذ القدم على سنن ماضية لم تتغير ولم تتبدل هي التي حكمت الأزمنة الغابرة والأجيال الماضية وهي التي تحكم الكون ومن فيه إلى يوم الدين. والسنن جمع سنّة، والسنة هي الطريقة المعبدة والسيرة المتبعة أو المثال المتبع، قيل إنها من قولهم سنّ الماء إذا والى صبه، فشبّه العرب الطريقة المستقيمة بالماء المصبوب، فإنه لتوالي أجزائه على نهج واحد يكون كالشيء الواحد كما جاء في تفسير المنار، وهي السيرة من العمل أو الخلق الذي يلازم صدور العمل على مثالها كما جاء في تفسير التحرير والتنوير. وسنة الإنسان هي الشيء الذي يعمله ويواليه، وسنَّ الشيء صوّره، والمسنون هو المصور كما جاء في التفسير الكبير للأندلسي. وقيل السنة هي الشرائع في تفسير البغوي، وقيل هي الأمة في تفسير القرطبي. وهي كلها معان متقاربة في المجمل تدل على أن السنن هي القواعد والقوانين التي انضبطت وانتظمت عبر الأزمنة، وسارت عليها مصائر الأمم وبُنيت عليها أحوال وأحداث الكون كله. 

والسنة في الاصطلاح الشرعي هي: ((ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير مما يصلح أن يكون دليلاً لحكم شرعي)). وهو تعريف يدخل ضمن المعنى العام للسنة النبوية، وخصوصيته أنه عملٌ سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصار حكما شرعيا ويسمى سنة رسول الله. أما السنة التي نقصدها في هذا الموضوع فهي سنة الله في الخلق والتي تعني حكم الله في خليقته من خلال مجموعة قوانين سنها لهم وأخضعهم لها لا يحيدون عنها على اختلاف أجناسهم وأنواعهم وفقا، لقول الله تعالى في سورة آل عمران الآية 83: ((أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ)). 

وقد وردت عبارة سنة وسنن ثماني عشرة مرة في القرآن الكريم، في إحدى عشرة آية، منها الآية التي نحن بصددها ومنها قوله تعالى في سورة النساء آية 26: ((يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم))، وقوله تعالى في سورة الأنفال الآية 38 ((قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين))، وقوله تعالى في سورة الحجر الآية 12 ((كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ، لا يؤمنون به وقد خلت سنة الأولين))، وقوله تعالى في سورة الإسراء الآية 77: ((سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا))، وقوله تعالى في سورة الكهف الآية 55: ((وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلا))، وقوله تعالى في سورة الأحزاب الآية 38: ((ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له، سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدرا مقدورا))، وقوله تعالى في سورة الأحزاب الآيات 60-62: ((لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا، مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا، سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا))، وقوله تعالى في سورة فاطر الآية 4: ((فهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا))، وقوله تعالى في سورة غافر الآية 85: ((فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون))، وقوله تعالى في سورة الفتح الآية 23 ((سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا)).

وتبين هذه الآيات بأن المقصود بالسنن المذكورة هو الشأن الاجتماعي الذي يتعلق بحياة الناس، وكأن الله سبحانه يلفت نظرنا بأن أحوال البشر كأحوال الكون تخضع كلها لقوانين ثابتة. يسمي الله هذه القوانين في الشأن الاجتماعي السنن، ويختار لها عبارة الآيات حين يتعلق الأمر بالقوانين الكونية، إما بشكل مجمل كما في سورة فصلت الآية 53: ((سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه علي كل شيء شهيد))، أو بشكل مفصل في العديد من الآيات منها قوله تعالى في سورة يس من الآية 37 إلى الآية 40: ((وَآيَةٌ لَّهُمُ الْلَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ. وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَـا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالعُرجُونِ الْقَدِيمِ. لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تدْرِكَ القَمَرَ وَلاَ الْلَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)).

وقد أحصى المهتمون بالموضوع قرابة ألف آية في القرآن الكريم فيها إشارات صريحة إلى الآيات الكونية علاوة على الآيات الأخرى القريبة من الصراحة. وفي هذا الترابط بين السنن الكونية والسنن الاجتماعية إعجاز قرآني عظيم يدل على وحدة الكون وانتظام قوانينه بين الحياة البشرية وحياة الكائنات الأخرى من حوله، سواء البادية منها كطلوع الشمس وغروبها وتعاقب الليل والنهار، أم الخفية منها الغابرة في تاريخ البشر وتركيباتهم النفسية، والغائرة في مركبات الذرة والمتصلة بالأفلاك البعيدة وغير ذلك مما دعا الله إلى النظر إليه والتدبر فيه والاستفادة منه لتكون الحياة البشرية متوافقة مع هذه القوانين الكونية والسنن الاجتماعية فيحصل الانسجام والاطمئنان والسعادة والهناء. وكما أمر الله بالنظر والبحث في أسرار الكون وما فيه كقوله تعالى في سورة يونس الآية 101: ((قل انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ))، فقد أمر كذلك بالتدبر في أسرار تصرفات البشر كما في الآية التي بين أيدينا: ((قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا 

فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)).




تأملات في السيرة النبوية 7 :نحو خدمة علم السنن الاجتماعية (1)



قال الله تعالى: (( قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ 140)) سورة آل عمران، حزب 7 الآيات 137- 140

تتحدث هذه الآيات عن شأن عظيم من شؤون الاجتماع البشري وعلاقة أهل الإيمان به، وفيها تبيين لقواعد جارية في حياة البشر، وسنن ماضية في تطور الأفراد والمنظمات والمجتمعات والدول والحضارات، لا تتغير ولا تتبدل، مثلها مثل قواعد الفيزياء والرياضيات والبيولوجية والفلك وغيرها التي تتشكل على أساسها الحياة.
و بفضل الله وفقت في انجاز بحث حول هذه الآيات أعرضه ضمن حلقات متتابعة مواصلة لسلسلة التأملات في القرآن الكريم التي كنا قد بدأناها قبل أشهر

||>> نحو خدمة علم السنن الاجتماعية - الحلقة الأولى  

>> مقدمة:

تتحدث هذه الآيات عن شأن عظيم من شؤون الاجتماع البشري وعلاقة أهل الإيمان به، وفيها تبيين لقواعد جارية في حياة البشر، وسنن ماضية في تطور الأفراد والمنظمات والمجتمعات والدول والحضارات، لا تتغير ولا تتبدل، مثلها مثل قواعد الفيزياء والرياضيات والبيولوجية والفلك وغيرها التي تتشكل على أساسها الحياة. من هذه القواعد والسنن ما يكتشفه البشر بالتأمل والتجريب عبر العصور، ومنها ما لا يكتشفونه. والأمم التي تبذل الجهد العلمي الأكبر هي التي تسبق لاكتشافها وفهمها، فإن نظّمت حياتها وفقها استقامت لها الدنيا وخضعت لها جوانبها ولا فرق في ذلك بين مؤمن وكافر إذ الدنيا لمن يجتهد فيها، وقد يكون إخضاعها طريقا للآخرة. غير أن الإيمان يعين صاحبه على إدراك سبل إخضاع الدنيا قبل غيره، لتطابق حالة الخضوع للخالق بين المؤمن والكون الذي هو "الكتاب المنظور"، وللإشارات والتنبيهات التي يخص بها الله المؤمنين في القرآن الذي هو "الكتاب المقروء"، ولاستعداد المؤمن لاتباع السنن وعدم مصادمتها بما حباه الله من صبر واستقامة، ثم لتوفيق الله له وعونه رحمة به وتكريما له لاختياره جواره. وقد يغفل المؤمن فلا يدرك السنن فيغلبه الكافر ويظهر عليه، ولكن ذلك لا يدوم ففي النظر في وقائع التاريخ دليل أن عاقبة المكذبين في تباب، وإنما يبتلي الله أهل الإيمان بدولة الباطل ليبين لهم بأن إيمانهم لا يعفيهم من الأخذ بأسباب القوة.
سأحاول أن أستلهم من هذه الآيات ما يعيننا على خدمة علم السنن الاجتماعية لعلنا نساهم في رسم مسارات موصلة إلى ذلك تضاف لما يبذله المهتمون بهذا العلم النفيس. سأتطرق في هذا االمساهمة إلى مراجعة سياق نزول هذه الآيات لأهميتها في إدراك قيمة الموضوع، ثم أتوقف عند تعريف السنن وفق ما ذهب إليه العلماء والمفسرون. وأحدد نوع السنن التي تقصدها الآية وأذكر بخصائصها، ثم أتطرق إلى تبيين أهمية دراسة السنن، وأوضح المصادر المختلفة لدراستها. وفي الأخير أقترح منهجية مختصرة لخدمة علم السنن. وأترك التفصيل في السُّنة الأساسية التي تتحدث عنها الآية وهي سنة التداول إلى مناسبة أخرى.

>> سياق النزول:

نزلت هذه الآيات ضمن سياق الحديث عن غزوة أحد التي تعتبر من أكثر الغزوات عبرا وعظات. وأسست لمفاهيم إسلامية أساسية كثيرة، منها ما هو موضوع هذه الآيات حيث يُعلِم الله تعالى المؤمنين بأن الحرب بينهم وبين الكفار سجال، وأن إسلامهم لا يعني نصرهم الدائم على عدوهم وإنما يحكم ذلك سننٌ يجب أن يقتفوا أثرها في الكون الذي يعيشون فيه وأن يتأملوها في من خلا قبلهم، وفي أنفسهم وفي الواقع الذي يحيونه. فخسرانهم في غزوة أحد بعد أن كادوا يظفرون وبعد أن نصرهم من قبلُ في غزوة بدر الكبرى إنما سببه عدم اتباع قواعد النصر من طاعة لرسول الله، والتزام خطة الحرب المتفق عليها، ومسارعة فئة منهم إلى غنيمة شخصية صغيرة عاجلة، على حساب غنيمة عامة أوفر في الدنيا وأبقى في الآخرة، لو كان صبرهم أقوى بقليل وأطول بيسير. غير أن الله يعلم بأن هذه الفئة التي أخطأت وخالفت السنن هي الأصلح، فأراد أن يواسيها ويسليها ويثبتها فأخبرها بأنها هي الأعلى شأنا وقدرا ووعدها بأنها هي التي ستكون الأعلى في الأرض والأظهر ما التزمت بأسس الإيمان ومعانيه التي ذكرها قبل هذه الآيات في سورة آل عمران، وما الجراح والآلام التي أصابتهم إلا مكاره تصيب الكفار كذلك فتكون لهم عقابا بأيدي المؤمنين، وتصيبهم هم كذلك فتكون سبيلا للتمحيص حتى يتميز المؤمن الصادق عن الكافر والمنافق، وليكون المؤمنون المجاهدون صورا حية للحق تشهد في حياتهم بالحق لصالح الحق وضد الباطل، ومنهم من يصطفيه الله فيقتل في سبيل الله فيبقى قدوة للأحياء وهو ميت، تواصل ذكراه الشهادة بينهم ويذهب هو إلى جوار ربه الحي الذي لا يموت. وبهذه القصة الواقعية التي حدثت لجيل الصحابة يضرب الله المثل للناس أجمعين عامة، وللمؤمنين خاصة، فرسم سبحانه بذلك معالم للتأمل وسطر منهجا للاتباع إلى أن تقوم الساعة.

Loading

تابعنا

Twitter Facebook Favorites