قال الله تعالى: (( قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ 140)) سورة آل عمران، حزب 7 الآيات 137- 140
تتحدث هذه الآيات عن شأن عظيم من شؤون الاجتماع البشري وعلاقة أهل الإيمان به، وفيها تبيين لقواعد جارية في حياة البشر، وسنن ماضية في تطور الأفراد والمنظمات والمجتمعات والدول والحضارات، لا تتغير ولا تتبدل، مثلها مثل قواعد الفيزياء والرياضيات والبيولوجية والفلك وغيرها التي تتشكل على أساسها الحياة.
و بفضل الله وفقت في انجاز بحث حول هذه الآيات أعرضه ضمن حلقات متتابعة مواصلة لسلسلة التأملات في القرآن الكريم التي كنا قد بدأناها قبل أشهر
ـ >>مصادر علوم السنن :
حينما يتناول المفسرون قوله تعالى: ((هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين)) يتفقون في المجمل بأن الخطاب موجه للناس جميعا مؤمنهم وكافرهم، ولكن الذين يهتدون به ويتعظون به هم المتقون. ويفصل محمد الشوكاني هذا في تفسيره فتح القدير فيقول: ((قوله: وهدى وموعظة أي: هذا النظر مع كونه بيانا فيه هدى وموعظة للمتقين من المؤمنين، فعطف الهدى والموعظة على البيان يدل على التغاير ولو باعتبار المتعلق، وبيانه أن اللام في الناس إن كانت للعهد فالبيان للمكذبين والهدى والموعظة للمؤمنين، وإن كانت للجنس فالبيان لجميع الناس مؤمنهم وكافرهم، والهدى والموعظة للمتقين وحدهم)). وفي هذا حكمتان كبيرتان: الأولى أن البيان - الذي يفيد معنى الإعلان والإخبار - بأن الأرض خلقت على سنن ثابتة وقوانين راسخة هو إخبار لجميع الناس مؤمنهم وكافرهم، وقد يستفيد من الإعلان والإخبار الكافر فينتبه إلى وجود هذه السنن والقوانين فيكتشفها ويسخرها ويستفيد منها غير أن استفادته جزئية وقد يكون الضرر بها عليه أكبر، فقد يغتر بها وتفتنه عن معرفة ربه وشكره وقد يستعملها للظلم والعدوان كما هو حال كثير من الطغاة الأذكياء الأقوياء عبر التاريخ. وفي هذا العصر بالذات حيث قدرت الأمم المتقدمة على تسخير علمها بالآيات الكونية والسنن الاجتماعية لظلم غيرها. ومهما يكن من أمر فإن هذه السنن ذاتها ستقضي عليها وتفنيها. وأما الحكمة الثانية، فإن هذا البيان العام إذا تلقفه المؤمنون المتقون، وانتبهوا من خلاله إلى ما يرشدهم إليهم خالقهم من سنن وقوانين وبذلوا جهدهم للتحكم فيها والاستفادة منها فإنها ستكون سببا لهدايتهم واتعاظهم بغيرهم وقربهم إلى ربهم لما يرون من تطورات كونية تعود كلها إلى الله وفعله وفق سنن ثابتة لا تتغير ولا تتبدل، وسيكون فهمهم لهذه السنن أعلى وأشمل وأدق وأوسع وأحكم من فهم الكافرين لها. وسيكون إدراكهم لها والاستفادة منها أسرع من إدراك الكافرين لها واستفادتهم منها، كما كان حال الجيل الأول من المسلمين الذين فتحوا العالم من حولهم في ربع قرن وصنعوا حضارة كبرى في أوقات قياسية غير مسبوقة في تاريخ الحضارات. إن هذا العلم هو علم المؤمنين قبل غيرهم، لا يجاريهم غيرهم فيه إذا اهتموا به، لأنهم يملكون ما لا يملكه غيرهم من مفاتيح هذا العلم المودعة في كتاب الله الذي يقرؤونه ويؤمنون به ويهتدون به ويتعظون به.
يبين الله تعالى في هذه الآية مصادر معرفة السنن ومفاتيح هذا العلم فيؤكد بأنها في الأرض (وليس على الأرض) وقوله في الأرض تشمل الأرض كلها، ما على سطحها وجوفها وبحرها وهوائها ما دون أعلى طبقات الغلاف الجوي الذي هو جزء من الأرض. والسير في الأرض يشمل كذلك حاضرها وماضيها فسياق الآية يدل على ذلك حين يقول الله: ((كيف كان عاقبة المكذبين))، وبهذا يتضح المجال الواسع للسير في الأرض ومحدودية الإنسان في ما يمكن أن يدركه من علوم الأرض وتاريخها وأحوال أهلها وأهمية تراكمية العلوم جيلا بعد جيل.
ولو أردنا أن نتعرف على مصادر علوم السنن من هدي هذه الآية ومثيلاتها فستكون الآيات التي تتحدث عن السنن هي أول ما يُهتم به وآيات القصص هي أولها وأساسها ومنهجها حيث إن الله تحدث عن عاقبة المكذبين مباشرة بعدما أمر بالنظر إلى معرفة السنن. والقصص القرآني ثلاثة أنواع ففيه القصص الذي يتحدث عن الأنبياء ودعوتهم ومناوئيهم ومصائر قومهم، وقصص أقوام آخرين في أزمنة غابرة كقصة الذين أخرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، وطالوت وجالوت، وابني آدم، وأهل الكهف، وذي القرنين، وقارون، وأصحاب السبت، ومريم، وأصحاب الأخدود، وأصحاب الفيل، ونحوهم، وقصص يتعلق بسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم والحوادث التي وقعت في زمنه كغزوة بدر وأحد وحنين وتبوك والأحزاب، والهجرة، والإسراء. وفي كل هذه القصص عبر وعظات جليلة كما يقول الله تعالى عن قصة سيدنا يوسف: ((لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب)). كما أن الله تعالى يؤكد بأن هذه القصص هي أحسن ما يمكن أن يصل إلى مسامع الناس من أخبار لما فيها من ذكر وعبر وحقائق ثابتة مطلقا وفق قوله تعالى في نفس السورة: ((نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين)).
وبالإضافة إلى القصص هناك الأمثلة القرآنية المليئة بالحكم التي يضربها الله للناس لهدايتهم وتقويم سلوكهم كمثل الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة، والمشرك والمؤمن، والذي ينفق والذي لا ينفق، والذي يغتاب ويتجسس، والأمثلة التي يضربها بالمخلوقات كالريح والطير والنمل والنحل والشجرة وغير ذلك، ومن أحسن ما كتب في هذا الموضوع كتاب "الأمثال في القرآن" لابن قيم الجوزية.
ويمكن اعتبار الأحكام والشرائع التي وردت في كتاب الله مصدرا من مصادر فهم السنن لأن الله تعالى حين يقول: ((فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين)) يبين بأن سبب هلاك الأمم هو معصية الله تعالى فيدعو هذا للتأمل في الأحكام وأثرها على مصائر الناس في الدنيا حيث إن مصير العصيان في الآخرة معروف. فيجب لهذا الأمر تصنيف الأحكام وفق رؤية السنن، والبحث في أكثر الطاعات تثبيتا للنهوض والرقي والازدهار وأكثر المعاصي إضرارا بالاستقرار المجتمعي والتطور والرفاه، مع البحث في علاقة الأخلاق والسلوك بالمعتقد، ومدى تأثير انتشار السلوك السيئ والأخلاق الرديئة في بيئة المسلمين، ومدى تأثر البيئة المكذبة بانتشار الأخلاق الفاضلة والتصرفات الجيدة. وأيهما أدعى للنجاح في الدنيا المعتقد أم الأخلاق إذا تفرقا، وما مدى ثبات الأخلاق الجيدة في البيئة المكذبة، وما مدى ثبات التوحيد والمعتقد الصحيح في البيئة الفاسدة أخلاقيا. وفي هذا يورد الطاهر بن عاشور كلاما معبرا في تفسيره لهذه الآية فيقول: ((البيان: الإيضاح وكشف الحقائق الواقعة. والهدى: الإرشاد إلى ما فيه خير الناس في الحال والاستقبال. والموعظة: التحذير والتخويف. فإن جعلت الإشارة إلى مضمون قوله ((قد خلت من قبلكم سنن)) فإنها بيان لما غفلوا عنه من عدم التلازم بين النصر وحسن العاقبة، ولا بين الهزيمة وسوء العاقبة، وهي هدى لهم لينتزعوا المسببات من أسبابها، فإن سبب النجاح حقا هو الصلاح والاستقامة، وهي موعظة لهم ليحذروا الفساد ولا يغتروا كما اغترت عاد إذ قالوا ((من أشد منا قوة)) وهذا القول مفيد حقا في بحث تلازم ظهور المكذبين بالرسالة المحمدية في هذا الزمن بمعنى النجاح وهل ما هم عليه وما أوصلوا البشرية إليه عاقبة ناجحة أم لا؟
ـ ||>>> يتبع ...
0 commentaires:
إرسال تعليق